لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، قَالَ: فَمَا زَالَ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الشِّرْكِ، قَالَ السهيلي فِي الرَّوْضِ الْأُنُفِ: كَانَ عمرو بن لحي حِينَ غَلَبَتْ خُزَاعَةُ عَلَى الْبَيْتِ وَنَفَتْ جُرْهُمَ عَنْ مَكَّةَ قَدْ جَعَلَتْهُ الْعَرَبُ رَبًّا لَا يَبْتَدِعُ لَهُمْ بِدْعَةً إِلَّا اتَّخَذُوهَا شِرْعَةً؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُطْعِمُ النَّاسَ وَيَكْسُو فِي الْمَوْسِمِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابن إسحاق أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ الْأَصْنَامَ الْحَرَمَ وَحَمَلَ النَّاسَ عَلَى عِبَادَتِهَا، وَكَانَتِ التَّلْبِيَةُ مِنْ عَهِدِ إِبْرَاهِيمَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، حَتَّى كَانَ عمرو بن لحي، فَبَيْنَمَا هُوَ يُلَبِّي تَمَثَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ يُلَبِّي مَعَهُ، فَقَالَ عمرو: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، فَقَالَ الشَّيْخُ: إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عمرو وَقَالَ: وَمَا هَذَا؟ فَقَالَ الشَّيْخُ: قُلْ: تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ؛ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَذَا، فَقَالَهَا عمرو وَدَانَتْ بِهَا الْعَرَبُ، انْتَهَى كَلَامُ السهيلي، وَقَالَ الْحَافِظُ عماد الدين بن كثير فِي تَارِيخِهِ: كَانَتِ الْعَرَبُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَنْ وَلِيَ عمرو بن عامر الخزاعي مَكَّةَ وَانْتَزَعَ وِلَايَةَ الْبَيْتِ مِنْ أَجْدَادِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَحَدَثَ عمرو الْمَذْكُورُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَشَرَعَ لِلْعَرَبِ الضَّلَالَاتِ مَنِ السَّوَائِبِ وَغَيْرِهَا، وَزَادَ فِي التَّلْبِيَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، قَوْلَهُ: إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَتَبِعَتْهُ الْعَرَبُ عَلَى الشَّرْطِ فَشَابَهُوا بِذَلِكَ قَوْمَ نُوحٍ وَسَائِرَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَفِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ بَقَايَا مِنْ دَيْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَةِ خُزَاعَةَ عَلَى الْبَيْتِ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُمْ مَشْئُومَةً إِلَى أَنْ جَاءَ قصي جَدُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَاتَلَهُمْ وَاسْتَعَانَ عَلَى حَرْبِهِمْ بِالْعَرَبِ وَانْتَزَعَ وِلَايَةَ الْبَيْتِ مِنْهُمْ، إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَرْجِعْ عَمَّا كَانَ أَحْدَثَهُ لَهَا عمرو الخزاعي مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ دِينًا فِي نَفْسِهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُغَيَّرَ. انْتَهَى.
فَثَبَتَ أَنَّ آبَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى زَمَانِ عمرو [الْمَذْكُورِ] كُلَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِيَقِينٍ، وَنَأْخُذُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْبَاقِي وَعَلَى زِيَادَةِ تَوْضِيحٍ لِهَذَا الْقَدْرِ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: مِمَّا يُنْتَصَرُ بِهِ لِهَذَا الْمَسْلَكِ، آيَاتٌ وَآثَارٌ وَرَدَتْ فِي ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَعَقِبِهِ، الْآيَةُ الْأُولَى - وَهِيَ أَصْرَحُهَا - قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ - وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: ٢٦ - ٢٨] أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: ٢٨] قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، بَاقِيَةً فِي عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وابن المنذر عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: ٢٨] قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا يونس عَنْ شيبان عَنْ قَتَادَةَ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute