تَقْرِيرٌ آخَرُ: مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ السَّائِلِ: فَأَيْنَ أَبُوكَ؟ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: إِنَّ أَبِي - إِنْ ثَبَتَ - الْمُرَادَ بِهِ عَمُّهُ أبو طالب لَا أَبُوهُ عبد الله، كَمَا قَالَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ فخر الدين فِي أَبِي إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ عَمُّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ والسدي وَيُرَشِّحُهُ هُنَا أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِطْلَاقَ ذَلِكَ على أبي طالب كَانَ شَائِعًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَا كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: قُلْ لِابْنِكَ يَرْجِعُ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، وَقَالَ لَهُمْ أبو طالب مَرَّةً لَمَّا قَالُوا لَهُ: أَعْطِنَا ابْنَكَ نَقْتُلْهُ وَخُذْ هَذَا الْوَلَدَ مَكَانَهُ -: أُعْطِيكُمُ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ وَآخُذُ ابْنَكُمْ أَكْفُلُهُ لَكُمْ، وَلَمَّا سَافَرَ أبو طالب إِلَى الشَّامِ وَمَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَلَ لَهُ بحيرا فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا مِنْكَ؟ قَالَ: هُوَ ابْنِي، فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْغُلَامِ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا، فَكَانَتْ تَسْمِيَةُ أبي طالب أَبًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَائِعَةً عِنْدَهُمْ لِكَوْنِهِ عَمَّهُ وَكَوْنِهِ رَبَّاهُ وَكَفَلَهُ مِنْ صِغَرِهِ، وَكَانَ يَحُوطُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَنْصُرُهُ، فَكَانَ مَظِنَّةَ السُّؤَالِ عَنْهُ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَقَعَ فِي حَدِيثٍ يُشْبِهُ هَذَا ذِكْرُ أبي طالب فِي ذَيْلِ الْقِصَّةِ، أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أم سلمة (أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَحُثُّ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ وَإِيوَاءِ الْيَتِيمِ وَإِطْعَامِ الضَّيْفِ وَإِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَكُلُّ هَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ هشام بن المغيرة، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلُّ قَبْرٍ لَا يَشْهَدُ صَاحِبُهُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَهُوَ جَذْوَةٌ مِنَ النَّارِ، وَقَدْ وَجَدْتُ عَمِّي أبا طالب فِي طَمْطَامٍ مِنَ النَّارِ فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ لِمَكَانِهِ مِنِّي وَإِحْسَانِهِ إِلَيَّ فَجَعَلَهُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ» ) .
تَنْبِيهٌ: قَدِ اسْتَرَاحَ جَمَاعَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ كُلِّهَا وَأَجَابُوا عَنِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ [فِيهِمَا بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، كَمَا أَجَابُوا عَنِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ، وَقَالُوا: النَّاسِخُ لِأَحَادِيثِ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: ١٦٤] وَلِأَحَادِيثِ الْأَبَوَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: ١٥] وَمِنَ اللَّطَائِفِ كَوْنُ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الْفَرِيقَيْنِ مُقْتَرِنَتَيْنِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَعَاطِفَتَيْنِ مُتَنَاسِقَتَيْنِ فِي النَّظْمِ، وَهَذَا الْجَوَابُ مُخْتَصَرٌ مُفِيدٌ يُغْنِي عَنْ كُلِّ جَوَابٍ إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى الْمَسْلَكِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، فَلِهَذَا احْتَجْنَا إِلَى تَحْرِيرِ الْأَجْوِبَةِ عَنْهَا عَلَى الْمَسْلَكِ الثَّانِي.
تَتِمَّةٌ: قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أبو طالب، وَأَنَّهُ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute