ثم يتفرع عن هذا مسألة أخرى تسهّل موضوع القدر، خاصة في جانب يشكل على كثير من الناس، وهو جانب الهداية والإضلال، ونحن نعلم أن الله عز وجل يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، وأنه سبحانه لا راد لفضله ولا معقّب لحكمه، ولكن قد يأتي الشيطان ويخنس ويوسوس لبعض الناس، ويقول له: إذا كان الله عز وجل قدّر الضلالة على بعض الخلق فكيف يحاسبون؟ هذا يحتاج إلى شيء من التوازن بين قضيتين إذا وازنا بينهما زالت هذه الشبه، وهذا التوازن هو مقتضى النصوص، وهو أن الله عز وجل حينما قدر الهداية لبعض العباد وقدر لهم الخير، ووعدهم بالفضل والجنة فإن ذلك مبني على علمه سبحانه بماذا سيصنعون، فالله عز وجل علم أن هؤلاء من البشر ومن الجن سيعملون خيراً، وسيختارون طريق الهدى والخير، فقدر لهم ذلك، وبنيت أحكامهم على ذلك.
إذاً: فالله عز وجل قدر الخير والهدى، فأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبيّن طريق الخير والهدى، وجعل عند الإنسان التمييز فيه، وأقدره على فعل الخير، وأمره به، وحثه عليه، ووعده عليه.
ثم إنه عز وجل قدر الضلالة ونهى عنها وبين خطرها، وحذر منها، وأقدر العباد عليها ابتلاء وفتنة، ثم توعدهم بعد ذلك وتحقق عليهم الوعد.
فالله عز وجل جبل المكلفين على الحق والهدى، وجبلهم على قبول الضلالة، وهذا أمر قدري، ولذلك قال الله عز وجل:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:١٠]، وقال سبحانه وتعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان:٣]{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:٢٩] بعدما قرر الله عز وجل أمور الهداية.
هذه المشيئة مبنية على بيان طريق الحق بوضوح، وطريق الباطل بوضوح، وإعطاء الإنسان الفسحة والاختيار، فإن اختار طريق الضلالة باختياره فليتحمل مسئولية ذلك، وإن اختار طريق الهداية فهو موعود بالخير وهذا كله في سابق علم الله؛ لأن بعض الناس قد يقول: ورد في الحديث أن الله عز وجل يرسل ملكاً عند بلوغ الإنسان مائة وعشرين يوماً يكتب مقاديره، ومنها: شقي أو سعيد، ولذلك حينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث للصحابة، قال الصحابة: ففيم العمل ما دام قد كُتب قبل أن ننشأ في الدنيا؟ قال عليه الصلاة والسلام:(اعملوا فكل ميسر لما خُلق له) فهذا ناتج عن علم الله السابق بماذا سيصنع هذا الإنسان، فالله علم في سابق علمه ماذا سيفعل هذا الإنسان فقدّر ذلك على ضوء ذلك، أما أن يكون تحكماً فلا؛ لأن الله عز وجل لا يمكن أن يظلم العباد {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[فصلت:٤٦]، فيجب أن نوقن بعدل الله وحكمته وهنا يستريح المسلم.