[الإيمان بالغيبيات وقواعده]
الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وآله، ورضي الله عن صحابته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد.
يقول المؤلف حفظه الله تعالى: [عاشراً: الإيمان بما صح الدليل عليه من الغيبيات، كالعرش والكرسي، والجنة والنار، ونعيم القبر وعذابه، والصراط والميزان وغيرها دون تأويل شيء من ذلك].
هذه قاعدة الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب يدخل فيه: الإيمان بالله وملائكته؛ لأن الملائكة غيب، وكذلك اليوم الآخر وسائر المغيبات، أي: أن أركان الإيمان الستة تضمنت أصولاً عظيمة من أصول الغيب، لكن الإيمان بالغيب لا ينحصر في أركان الإيمان أو في بعض أركان الإيمان، بل الغيب يشمل كل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من الأمور المغيبة، والأمور المغيبة على نوعين: النوع الأول: أمور مغيبة تحدث في الدنيا من أمور مستقبلية أو حتى ماضية، لكن انقطعت أخبارها عن الخلق مثل ما جاء في قصص كثير من النبيين على الوجه السليم الصادق، لا على ما روي في التاريخ مما دخله من حكايات وكذب.
إذاً: النوع الأول: هو الغيبيات التي غابت عنا في الدنيا من أخبار السالفين وأيضاً من الأخبار المستقبلية ومنها أشراط الساعة.
النوع الثاني: الغيب الذي هو غائب عن الدنيا، أو لا يتعلق بحياة البشر، وهو على صنفين: الصنف الأول: ما يتعلق بالغيبيات الكونية الكبرى التي لا علاقة لها مباشرة بحياة الإنسان، مثل ما يتعلق بأخبار السماوات وأخبار العرش والكرسي، والأمور التي هي موجودة حالياً في الدنيا لكنها فوق مدارك البشر ولا تتعلق بحياة البشر المباشرة.
الصنف الثاني: الغيبيات التي تتعلق باليوم الآخر، وهذه الأمور كلها تسمى الإيمان بالغيب؛ لأنها غائبة عن المدارك، بل حتى تفصيلاتها غائبة عن العقول، وعن جميع المدارك فالحواس الخمس وغير الحواس لا تدركها حتى الوسائل العلمية الحديثة، ولذلك وسأستعجل هذه المسألة لأهميتها، لذلك ظن بعض الناس أن ما أدركته العلوم والكشوف العلمية الحديثة مما هو غائب عن البشر أنه نوع من الاطلاع على الغيب، وهذا خلاف القاعدة الشرعية، فكل ما أدركه البشر وما سيدركونه في مداركهم العلمية التجريبية الحسية أو غير الحسية التي تنبني على قطعيات هذه أمور كلها مما لم يكن غيب في علم الله عز وجل، لكنه غائب عن بعض البشر، ولم يكن غائباً عن آخرين، غائب عمن سبقونا واكتشفه المعاصرون وربما تحدث كشوف أخرى كثيرة جداً لا تخرق الإيمان بالغيب، بل هي نوع مما أطلع الله عليه عباده، لكن الغيب الخالص لا يمكن الاطلاع عليه، ولذلك جاءت هذه القاعدة، وهي أنه يجب على المسلم أن يسلم ابتداء بأنه مؤمن ومصدق بكل ما صح به الدليل.
والدليل نوعان: أولاً: القرآن.
ثانياً: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم منه ما يصح ومنه ما لا يصح، فما صح بأسانيد صحيحة صار من الدليل الذي يجب الإيمان بمدلوله.
إذاً: ما صح به الدليل هو القرآن، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح من جميع الغيبيات المذكورة في السابق واللاحق في الدنيا والآخرة، في الأرض وفي ملكوت السماوات، وما أخبر الله به مما هو فوق ذلك؛ لأن الله عز وجل أخبر عن الغيبيات بما هو فوق السماوات كالكرسي والعرش وهي مخلوقة، ولذلك جاء ضرب المثل بالعرش، فالعرش أعظم المخلوقات التي جاء خبرها عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو أعظم المخلوقات، وهو محيط بالمخلوقات، وهو عرش المخلوقات، والله عز وجل أشار إلى العرش بإشارات كثيرة، منها ما يتعلق بصفات الله عز وجل وهو قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] واستواء الله يكون على ما يليق بجلاله، وينبغي ألا يفسر بلوازم المحدثات والمخلوقات، وقد خاض الناس في مسألة الاستواء بغير علم، واستواء الله عز وجل على عرشه على ما يليق بجلاله، فالعرش مخلوق، والله عز وجل ليس بحاجة إلى المخلوق، فاستواء الله على ما يليق بجلاله، والكرسي دون ذلك، وهو أيضاً محيط بالسماوات.
وهذا بالنسبة للغيبيات التي هي عوالم من عوالم الكون ومخلوقات من مخلوقات الكون موجودة، وليست تتعلق بالمستقبليات، وهناك نوع آخر من الغيبيات المستقبلية ومنها الجنة والنار، ولها حالان: الحالة الأولى: وجودهما الآن، فلا شك أن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن، لكن ليس على الهيئة الكاملة التي تكون عليها يوم القيامة، وبعد أن ينقسم الخلق إلى سعيد في الجنة نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم، وإلى شقي في النار، وقبل أن ينقسم الخلق فالنار والجنة موجودتان الآن وبعد الآن.
وكذلك مما يمثل به على الغيبيات ما يتعلق بالحياة التي بين حياتين: حياة الإنسان إذا مات، وتسمى الحياة البرزخية وقبل أن يبعث، هذه تسمى الحياة البرزخية؛ لأن البرزخ هو الموقع الذ