للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من الإنصاف أن نتخذ من هذه المراجعة دليلاً على اتهام الصحابة بعضهم لبعض، وتكذيب بعضهم لبعض، إلى غير ذلك من الدعاوى الكاذبة التي يطنطن بها المُبَشِّرُونَ وَالمُسْتَشْرِقُونَ ومن تابعهم من الكُتَّابِ المعاصرين الذين جعلوا من أنفسهم أبواقًا لترديد كلامهم.

والسيدة عائشة - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - كانت عاقلة عالمة، وكانت لا تقبل الشيء إِلاَّ بعد اقتناع، وكانت تستشكل بعض الروايات التي لم تسمعها من رسول الله ورواها غيرها، لأنها تعارض ما سمعته في ظنها أو تخالف ظاهر القرآن، فمن ثم كانت تراجع بعض الصحابة، فمراجعتها لأبي هريرة لا تدل على اتهامها له أو تكذيبها إياه، ألا ترى أنها استشكلت بل ردت بعض روايات رواها الفاروق عمر وابنه عبد الله، وعمر فقيه الصحابة وصاحب الموافقات، وأحد وزيري رسول الله، وثاني الخلفاء الراشدين، ولا يتطرق إلى ساحته تهمة أو زيف ريبة بإجماع منا ومن أعداء السنن والأحاديث، فقد روى البخاري ومسلم في " صحيحيهما " أن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لما روى حديث: «إِنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»، فلما ذُكِرَ ذلك لعائشة قَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، لاَ وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا، وَلَكِنَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» وقالت عائشة: «حَسْبُكُمُ القُرْآنُ {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}» (١).

وفي " صحيح مسلم " اَيْضًا أنَّ ابن عمر لما روى «المَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» فَقَالَتْ: فَقَالَتْ: رَحِمَ اللهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَحْفَظْهُ، إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ، وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «أَنْتُمْ تَبْكُونَ، وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ»، ولما روى ابن عمر أن النَّبِيَّ قام على قليب بدر، وفيه قتلى المشركين، فقال لهم: «إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ» فقالت: لَقَدْ وَهَلَ إِنَّمَا قَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ» ثُمَّ قَرَأَتْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (٢)

فها أنت ذا ترى أنها في رَدِّهَا رواية عمر وابنه استندت إلى ظاهر القرآن وذلك بحسب اجتهادها، ولا شك أن الرواية إذا ثبتت عن النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهي مقدمة على اجتهاد الصحابى مهما بلغ من العلم والفقه، فهل تعتبر مراجعتها لعمر وابنه - رَضِيَ


(١) [سورة الأنعام، الآية: ١٦٤]، [سورة الإسراء، الآية: ١٥]، [سورة فاطر، الآية: ١٨]، [سورة الزمر، الآية: ٧].
(٢) [سورة فاطر، الآية: ٢٢].

<<  <   >  >>