فِي هَذَا الكِتَابِ مِنْ ذَمِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَا يَقِفُ بِهِ النَّاظِرُ فِيهِ عَلَى حَالِهِ، عَصَمَنَا اللَّهُ وَكَفَانَا شَرَّ الحَاسِدِينَ، آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ» وكان هذا من ابن عبد البر بمثابة الاعتذار عما أورده عن بعضهم في ذمه وتنبيه القارئ أن لا يغتر بهذه الأقوال لأن الظاهر أنها مختلقة مكذوبة.
[٢] ما ذكره عن الإمام أبي حنيفة من رَدِّهِ لبعض الأحاديث الآحادية وعدم اهتمامه بها قد قدمت تحقيق القول فيه، وأن الإمام كغيره من الأئمة يأخذ بما ثبت وصح عنده وللأئمة في هذا معايير وموازين دقيقة قد لا تصل إليها بعض الأفهام القاصرة.
ثم إن ما ذكروه معارض بما رُوِيَ عن الإمام أبي حنيفة من وقوفه عندما دلت عليه الأحاديث إذا صحت عنده، ذكر ابن عبد البر في " الانتقاء "(١) «أنه قيل لأبي حنيفة: المحرم لا يجد الإزراء يلبس السراويل؟ قال: لا ولكن يلبس الإزراء قيل له: ليس له إزار قال يبيع السراويل ويشتري بها إزار، قيل له: فَإِنَّ النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ وَقَالَ:" المُحْرِمُ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ " فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا عِنْدِي عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ فَأُفْتِي بِهِ، وَيَنْتَهِي كُلُّ اِمْرِئٍ إِلَى مَا سَمِعَ، وَقَدْ صَحَّ عِنْدَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:" لاَ يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ السَّرَاوِيلَ ". فَنَنْتَهِي إِلَى مَا سَمِعْنَا، قِيلَ لَهُ أَتُخَالِفُ [النَّبِيَّ]- صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يُخَالِفُ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِهِ أَكْرَمَنَا اللهُ، وَبِهِ اِسْتَنْقَذَنَا».
فهذا هو الذي يليق بحال هذا الإمام الكبير لا ما ذكروه من ترهات وأباطيل.
وكثيرًا ما كان الإمام يرى رَأْيًا ثم يثبت عنده حديث ويقتنع به فيرجع عن رأيه الأول، ذكر ابن عبد البر في " الانتقاء " بسنده «عَنْ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ أَمَانِ الْعَبْدِ فَقَالَ: " إِنْ كَانَ لاَ يُقَاتِلُ فَأَمَانُهُ بَاطِلٌ ".فَقُلْتُ لَهُ: " إِنَّهُ حَدَّثَنِي عَاصِمٌ الأَحْوَلُ عَنْ الفُضَيْلِ بْنِ يَزِِيدٍ الرَّقَاشِيِّ قَالَ: كُنَّا نُحَاصِرُ الْعَدُوَّ فَرُمِيَ إِلَيْهِمْ بِسَهْمٍ فِيهِ أَمَانٌ فَقَالُوا قَدْ أَمَّنْتُمُونَا، فَقُلْنَا: إِنَّمَا هُوَ عَبْدٌ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَعْرِفُ مِنْكُمُ العَبْدَ مِنَ الحُرِّ،