وغيرها فلو أن الأمر أمر تطور، كما زعموا - وبئس ما زعموا - لما اتفقوا هذا الاتفاق، ومعظم الخلافات في الفروع الفقهية إنما ترجع لاعتبارات أخرى معظمها يرجع إلى طريقة الاجتهاد، واختلاف أنظارهم في الدليل الواحد، وإلى أن بعض الأحاديث قد تكون في مصر ولا تكون في مصر آخر، وذلك لأن بعض الصحابة كان معهم من الأحاديث ما ليس عند الآخرين، ثم إننا لا نعتبر العصر الأول عصر طفولة في الفقه كَلاَّ وَحَاشَا، وإنما نعتبره عصر الاكتمال الديني والتشريعي، ومهما اختلف العلماء في الفروع فمرجعهم في الأحكام إلى الكتاب الكريم، والسنة النبوية، أو القياس عليهما، أو الإجماع.
وليس أدل على أن عصر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو عصر الاكتمال الديني والفقهي من قول الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - في حَجَّةِ الوَدَاعِ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}(١) وقوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَرَكْتُ فِيكُمْ [أَمْرَيْنِ] لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ» رواه مالك في " الموطأ " بلاغًا، ورواه الحاكم في " المستدرك "، وقوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لاَ يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلاَّ هَالِكٌ»(*).
فما من حكم يطلبه المسلمون في دينهم ودنياهم مهما تقدمت العصور والأزمان. إلا ويجدونه في القرآن فإن لم يجدوه في القرآن ففي السُنَّةِ. فإن لم يجدوه في السُنَّةِ قاسوا على ما في القرآن، أو على ما في السُنَّةِ، وإلا اجتهدوا في معرفة الحكم في حدود القواعد الأصولية المستنبطة من القرآن والسُنَّةِ، والاجتهاد في الإسلام باق إلى يوم القيامة، ولكن له شروط لا بد من توافرها فيمن يجتهد حتى يكون أهلا للاجتهاد، وليس الاجتهاد في الإسلام بَابًا يدخله أي أحد، ومن لوازم كون الإسلام دينًا عامًا للناس جميعا، وباقيًا خالدًا إلى يوم القيامة أن يكون باب الاجتهاد مفتوحًا، باقيًا إلى يوم القيامة حتى يكون فيه كفاء حاجات البشر في دينهم ودنياهم، وصدق من قال:«تَحْدُثُ لِلْنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الفُجُورِ»(**).