الآخر واجتهد برأيه في حدود القواعد الشرعية والالتزام بالأصول الاجتهادية، وقد يوافق اجتهاده الحديث، وقد يخالفه، والصحابة لم يكونوا في الملازمة سواء
ولما جاور النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرفيق الأعلى تفرق الصحابة في الأمصار الإسلامية وقد كان عند بعضهم من الأحاديث ما ليس عند الآخر، وَقَدْ تُعْرَضُ القضية في المدينة أو غيرها من الأمصار فيجدون فيها حَدِيثًا فيحكمون بمقتضاه، ثم تُعْرَضُ فِي مِصْرٍ آخر فلا يجدون فيها عند أحد من الصحابة الموجودين في هذا المصر حَدِيثًا، فيحكم بالاجتهاد ثم يظهر أن في المسألة حَدِيثًا عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موجودًا عند صحابي آخر فإذا ما نقل عن الصحابة أنهم حكموا في هذه المسألة بما يخالف الحديث الذي لم يطلعوا عليه ونقل إلينا الحديث فلا يكون ذلك قادحًا في الحديث لأنه لم يبلغهم.
٣ - وقد يكون منشأ الخلاف في الرواية اختلاف وجهة النظر في حكاية حال شاهدوها من رسول الله، وإلى هذا السبب يرجع كثير من الخلاف في الرواية وذلك مثل اختلافهم في حجة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي حَجَّةُ الوَدَاعِ: أكان النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَارِنًا، أَمْ كَانَ مُفْرِدًا، أَمْ كَانَ مُتَمَتِّعًا، فقد رآه بعضهم وقد أحرم بالحج فروى أنه كان مُفْرِدًا، ورآه بعضهم بعد ما أدخل العمرة على الحج فروى أنه كان قَارِنًا، ومن روى أنه كان مُتَمَتِّعًا فإنما أراد به التمتع اللغوي لا الشرعي.
٤ - وقد يكون منشأ اختلاف الرواية عن الصحابة الاختلاف في فهم المروي عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو في طريقة الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض أو في علة الحكم أو في ترجيح نص على نص.
٥ - وقد يكون الاختلاف لأن في الحديث عَامًّا، وَخَاصًّا، وَمُطْلَقَا، وَمُقَيَّدًا، وَمُجْمَلاً، وَمُبَيِّنًا فمنهم من يرى أنه على عمومه، ومنهم من يرى أنه عام مخصوص، ومنهم من يرى أنه على إطلاقه، ومنهم من يرى أنه مقيد إلى غير ذلك، فمن لم يتعمق في الدراسات الإسلامية الأصيلة يظن بادئ الرأي أنه تناقض، وأنه أثر من آثار الوضع والاختلاق، ولو تعمق وَبُحِثَ بَحْثًا مُجَرَّدًا عن الهوى والتعصب لظهر له الحق.