للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمواجه عِنْد هيجانه كَمَا تضطرب امواج الْبَحْر فَإِذا شَاءَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حركه بحركة الرَّحْمَة فَجعله رخاء وَرَحْمَة وبشرى بَين يَدي رَحمته ولاقحا للسحاب يلقحه بِحمْل المَاء كَمَا يلقح الذّكر الانثى بِالْحملِ وَتسَمى ريَاح الرَّحْمَة الْمُبَشِّرَات والنشر والذاريات والمرسلات والرخاء واللواقع ورياح الْعَذَاب العاصف والقاصف وهما فِي الْبَحْر والعقيم والصرصر وهما فِي الْبر وَإِن شَاءَ حركه بحركة الْعَذَاب فَجعله عقيما وأودعه عذَابا اليما وَجعله نقمة على من يَشَاء من عباده فَيَجْعَلهُ صَرْصَرًا ونحسا وعاتيا ومفسدا لما يمر عَلَيْهِ وَهِي مُخْتَلفَة فِي مهابها فَمِنْهَا صبا ودبور وجنوب وشمال وَفِي مَنْفَعَتهَا وتاثيرها اعظم اخْتِلَاف فريح لينَة رطبَة تغذى النَّبَات وابدان الْحَيَوَان واخرى تجففه واخرى تهلكه وتعطبه وَأُخْرَى تشده وتصلبه وَأُخْرَى توهنه وتضعفه وَلِهَذَا يخبر سُبْحَانَهُ عَن ريَاح الرَّحْمَة بِصِيغَة الْجمع لاخْتِلَاف مَنَافِعهَا وَمَا يحدث مِنْهَا فريح تثير السَّحَاب وريح تلقحه وريح تحمله على متونها وريح تغذى النَّبَات وَلما كَانَت الرِّيَاح مُخْتَلفَة فِي مهابها وطبائعها جعل لكل ريح ريحًا مقابلتها تكسر سورتها وحدتها وَيبقى لينها ورحمتها فرياح الرَّحْمَة مُتعَدِّدَة وَأما ريح الْعَذَاب فَإِنَّهُ ريح وَاحِدَة ترسل من وَجه وَاحِد لاهلاك مَا ترسل باهلاكه فلاتقوم لَهَا ريح اخرى تقَابلهَا وتكسر سورتها وتدفع حدتها بل تكون كالجيش الْعَظِيم الَّذِي لَا يقاومه شَيْء يدمر كل مَا اتى عَلَيْهِ وَتَأمل حِكْمَة الْقُرْآن وجلالته وفصاحته كَيفَ طرد هَذَا فِي الْبر وَأما فِي الْبَحْر فَجَاءَت ريح الرَّحْمَة فِيهِ بِلَفْظ الْوَاحِد كَقَوْلِه تَعَالَى {هُوَ الَّذِي يسيركم فِي الْبر وَالْبَحْر حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم برِيح طيبَة وفرحوا بهَا جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مَكَان} فَإِن السفن إِنَّمَا تسير بِالرِّيحِ الْوَاحِدَة الَّتِي تَأتي من وَجه وَاحِد فَإِذا اخْتلفت الرِّيَاح على السفن وتقابلت لم يتم سَيرهَا فالمقصود مِنْهَا فِي الْبَحْر خلاف الْمَقْصُود مِنْهَا فِي الْبر إِذْ الْمَقْصُود فِي الْبَحْر ان تكون وَاحِدَة طيبَة لَا يعارضها شَيْء فأفردت هُنَا وجمعت فِي الْبر ثمَّ انه سُبْحَانَهُ اعطى هَذَا الْمَخْلُوق اللَّطِيف الَّذِي يحركه اضعف الْمَخْلُوقَات ويخرقه من الشدَّة وَالْقُوَّة والباس مَا يقلق بِهِ الاجسام الصلبة القوية الممتنعة ويزعجها عَن اماكنها ويفتتها ويحملها على مَتنه فَانْظُر اليه مَعَ لطافته وَخِفته إِذا دخل فِي الزق مثلا وامتلأ بِهِ ثمَّ وضع عَلَيْهِ الْجِسْم الثقيل كَالرّجلِ وَغَيره وتحامل عَلَيْهِ ليغمسه فِي المَاء لم يطق وَيَضَع الْحَدِيد الصلب الثقيل على وَجه المَاء فيرسب فِيهِ فَامْتنعَ هَذَا اللَّطِيف من قهر المَاء لَهُ وَلم يمْتَنع مِنْهُ الْقوي الشَّديد وبهذه الْحِكْمَة امسك الله سُبْحَانَهُ السفن على وَجه المَاء مَعَ ثقلهَا وَثقل مَا تحويه وَكَذَلِكَ كل مجوف حل فِيهِ الْهَوَاء فَإِنَّهُ لَا يرسب فِيهِ لَان الْهَوَاء يمْتَنع من الغوس فِي المَاء فتتعلق بِهِ السَّفِينَة المشحونة الموقرة فَتَأمل كَيفَ استجار هَذَا الْجِسْم الثقيل الْعَظِيم بِهَذَا اللَّطِيف الْخَفِيف وَتعلق بِهِ حَتَّى امن من الْغَرق وَهَذَا كَالَّذي يهوى فِي قليب فَيتَعَلَّق بذيل رجل قوي شَدِيد يمْتَنع عَن السُّقُوط فِي القليب فينجو بتعلقه بِهِ فسبحان من علق هَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>