{سرمدا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من إِلَه غير الله يأتيكم بلَيْل تسكنون فِيهِ أَفلا تبصرون} خص سُبْحَانَهُ النَّهَار بِذكر الْبَصَر لانه مَحَله وَفِيه سُلْطَان الْبَصَر وتصرفه وَخص اللَّيْل بِذكر السّمع لَان سُلْطَان السّمع يكون بِاللَّيْلِ وَتسمع فِيهِ الْحَيَوَانَات مَالا تسمع فِي النَّهَار لانه وَقت هدوء الاصوات وخمود الحركات وَقُوَّة سُلْطَان السّمع وَضعف سُلْطَان الْبَصَر وَالنَّهَار بِالْعَكْسِ فِيهِ قُوَّة سُلْطَان الْبَصَر وَضعف سُلْطَان السّمع فَقَوله افلا تَسْمَعُونَ رَاجع إِلَى قَوْله قل ارايتم ان جعل الله عَلَيْكُم اللَّيْل سرمدا الى يَوْم الْقِيَامَة من اله غير الله يأتيكم بضياء بِهِ وَقَوله أَفلا تبصرون رَاجع الى قَوْله قل أرايتم ان جعل الله عَلَيْكُم النَّهَار سرمدا الى يَوْم الْقِيَامَة وَقَالَ تَعَالَى تبَارك الَّذِي جعل فِي السَّمَاء بروجا وَجعل فِيهَا سِرَاجًا وقمرا منيرا وَهُوَ الَّذِي جعل اللَّيْل وَالنَّهَار خلفة لمن أَرَادَ ان يذكر اَوْ أَرَادَ شكُورًا فَذكر تَعَالَى خلق اللَّيْل وَالنَّهَار وإنهما خلفة أَي يخلف احدهما الاخر لَا يجْتَمع مَعَه وَلَو اجْتمع مَعَه لفاتت الْمصلحَة بتعاقبهما واختلافهما وَهَذَا هُوَ المُرَاد باخْتلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار كَون كل وَاحِد مِنْهُمَا يخلف الاخر لَا يجامعه وَلَا يحاذيه بل يغشى احدهما صَاحبه فيطلبه حثيثا حَتَّى يُزِيلهُ عَن سُلْطَانه ثمَّ يَجِيء الاخر عَقِيبه فيطلبه حثيثا حَتَّى يهزمه ويزيله عَن سُلْطَانه فهما دَائِما يتطالبان وَلَا يدْرك احدهما صَاحبه
فصل ثمَّ تَأمل بعد ذَلِك احوال هَذِه الشَّمْس فِي انخفاضها وارتفاعها لاقامة
هَذِه الازمنة والفصول وَمَا فِيهَا من الْمصَالح وَالْحكم إِذْ لَو كَانَ الزَّمَان كُله فصلا وَاحِدًا لفاتت مصَالح الْفُصُول الْبَاقِيَة فِيهِ فَلَو كَانَ صيفا كُله لفاتت مَنَافِع مصَالح الشتَاء وَلَو كَانَ شتاء لفاتت مصَالح الصَّيف وَكَذَلِكَ لَو كَانَ ربيعا كُله اَوْ خَرِيفًا كُله فَفِي الشتَاء تغور الْحَرَارَة فِي الاجواف وبطون الارض وَالْجِبَال فتتولد مواد الثِّمَار وَغَيرهَا وتبرد الظَّوَاهِر ويستكثف فِيهِ الْهَوَاء فَيحصل السَّحَاب والمطر والثلج وَالْبرد الَّذِي بِهِ حَيَاة الارض وَأَهْلهَا واشتداد أبدان الْحَيَوَان وقوتها وتزايد القوى الطبيعية واستخلاف مَا حللته حرارة الصَّيف من الابدان وَفِي الرّبيع تتحرك الطبائع وَتظهر الْموَاد المتولدة فِي الشتَاء فَيظْهر النَّبَات ويتنور الشّجر بالزهر ويتحرك الْحَيَوَان للتناسل وَفِي الصَّيف يحتد الْهَوَاء ويسخن جدا فتنضج الثِّمَار وتنحل فضلات الابدان والاخلاط الَّتِي انْعَقَدت فِي الشتَاء وتغور الْبُرُودَة وتهرب الى الاجواف وَلِهَذَا تبرد الْعُيُون والابار وَلَا تهضم الْمعدة الطَّعَام الَّتِي كَانَت تهضمه فِي الشتَاء من الاطعمة الغليظة لانها كَانَت تهضمها بالحرارة الَّتِي سكنت فِي الْبُطُون فَلَمَّا جَاءَ الصَّيف خرجت الْحَرَارَة الى ظَاهر الْجَسَد وَغَارَتْ الْبُرُودَة فِيهِ فَإِذا جَاءَ الخريف اعتدل الزَّمَان وَصفا الْهَوَاء وَبرد فانكسر ذَلِك السمُوم وَجعله الله بِحِكْمَتِهِ برزخا بَين سموم الصَّيف وَبرد الشتَاء لِئَلَّا يتنقل الْحَيَوَان وهلة وَاحِدَة من
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute