للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَهَل كَانَ فِي قدرَة الاب الْعَاجِز الضَّعِيف إبراز هَذَا التَّصْوِير العجيب وَهَذَا التَّقْدِير الْمُحكم وَهَذِه الاصباغ الفائقة وَهَذِه الطعوم اللذيذة والروائح الطّيبَة وَهَذِه المناظر العجيبة فسل الجاحد من تولى تَقْدِير ذَلِك وتصيره وإبرازه وترتيبه شَيْئا فَشَيْئًا وسوق الْغذَاء اليه فِي تِلْكَ الْعُرُوق اللطاف الَّتِي يكَاد الْبَصَر يعجز عَن إِدْرَاكهَا وَتلك المجاري الدقاق فَمن الَّذِي تولى ذَلِك كُله وَمن الَّذِي اطلع لَهَا الشَّمْس وسخر لَهَا الرِّيَاح وَأنزل عَلَيْهَا الْمَطَر وَدفع عَنْهَا الافات وتامل تَقْدِير اللَّطِيف الْخَبِير فَإِن الاشجار لما كَانَت تحْتَاج الى الْغذَاء الدَّائِم كحاجة النَّاس وَسَائِر الْحَيَوَان وَلم يكن لَهَا قُوَّة أَفْوَاه كافواه الْحَيَوَان وَلَا حَرَكَة تنبعث بهَا لتناول الْغذَاء جعلت اصولها مركوزة فِي الارض ليسرع بهَا الْغذَاء وتمتصه من اسفل الثرى فتؤديه الى أَغْصَانهَا فتؤديه الاغصان الى الْوَرق وَالثَّمَر كل لَهُ شرب مَعْلُوم لَا يتعداه يصل اليه فِي مجاري وطرق قد احكمت غَايَة الاحكام فتأخذ الْغذَاء من اسفل فتلقمه بعروقها كَمَا يلتقم الْحَيَوَان غذاءه بفمه ثمَّ تقسمه على حملهَا بِحَسب مَا يحْتَملهُ فتعطى كل جُزْء مِنْهُ بِحَسب مَا يحْتَاج اليه لَا تظلمه وَلَا تزيده على قدر حَاجته فسل الجاحد من اعطاها هَذَا وَمن هداها اليه وَوَضعه فِيهَا فَلَو اجْتمع الاولون والاخرون هَل كَانَت قدرتهم وإرادتهم تصل الى تربية ثَمَرَة وَاحِدَة مِنْهَا هَكَذَا باشارة اَوْ نصاعة اَوْ حِيلَة اَوْ مزاولة وَهل ذَلِك الا من صنع من شهِدت لَهُ مصنوعاته دلّت عَلَيْهِ آيَاته كَمَا قيل:

فواعجبا كَيفَ يعْصى الاله ... ام كَيفَ يجحده الجاحد وَللَّه فِي كل تحريكه وتسكينه ابدا شَاهد وَفِي كل شَيْء لَهُ آيَة ... تدل على انه وَاحِد

فصل ثمَّ تَأمل إِذا نصبت خيمة اَوْ فسطاطا كَيفَ تمده من كل جَانب

بالاطناب ليثبت فَلَا يسْقط وَلَا يتعوج هَكَذَا تَجِد النَّبَات وَالشَّجر لَهُ عروق ممتدة فِي الارض منتشرة الى كل جَانب لتمسكه وتقيمه وَكلما انتشرت أعاليه امتدت عروقه واطنابه من اسفل فِي الْجِهَات وَلَوْلَا ذَلِك كَيفَ كَانَت تثبت هَذِه النخيل الطوَال الباسقات والدوح الْعِظَام على الرِّيَاح العواصف وَتَأمل سبق الْخلق الالهية للصناعة البشرية حَتَّى يعلم النَّاس نصب الخيم والفساطيط من خلقه للشجر والنبات لَان عروقها اطناب لَهَا كأطناب الْخَيْمَة واغصان الشّجر يتَّخذ مِنْهَا الفساطيط ثمَّ يحاكى بهَا الشَّجَرَة

فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة فِي خلق الْوَرق فَإنَّك ترى فِي الورقة الْوَاحِدَة من جملَة

الْعُرُوق

<<  <  ج: ص:  >  >>