وأشرك وَلَا فرق عِنْده بَين هَذَا وَهَذَا فليعجب الْعَاقِل من هَذَا التقابل والتباعد الَّذِي يزْعم كل فريق أَن قَوْلهم هُوَ مَحْض الْعقل وَمَا خَالفه بَاطِل بِصَرِيح الْعقل وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّة قَالَت أَنه ألْقى إِلَى عباده زِمَام الِاخْتِيَار وفوض إِلَيْهِم الْمَشِيئَة والإرادة وَأَنه لم يخص أحدا مِنْهُم دون أحد بِتَوْفِيق وَلَا لطف وَلَا هِدَايَة بل سَاوَى بَينهم فِي مقدوره وَلَو قدر أَن يهدى أحدا وَلم يهده كَانَ بخلا وَأَنه لَا يهدى أحدا وَلَا يضله إِلَّا بِمَعْنى الْبَيَان والإرشاد وَأما خلق الْهدى والضلال فَهُوَ إِلَيْهِم لَيْسَ إِلَيْهِ وَقَالَت الجبرية أَنه سُبْحَانَهُ أجبر عباده على أفعالهم بل قَالُوا أَن أفعالهم هِيَ نفس أَفعاله وَلَا فعل لَهُم فِي الْحَقِيقَة وَلَا قدرَة وَلَا اخْتِيَار وَلَا مَشِيئَة وَإِنَّمَا يعذبهم على مَا فعله هُوَ لَا على مَا فَعَلُوهُ وَنسبَة أفعالهم إِلَيْهِ كحركات الْأَشْجَار والمياه والجمادات فالقدرية سلبوه قدرته على أَفعَال الْعباد ومشيئته لَهَا والجبرية جعلُوا أَفعَال الْعباد نفس أَفعاله وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا فاعلين لَهَا فِي الْحَقِيقَة وَلَا قَادِرين عَلَيْهَا فالقدرية سلبته كَمَال ملكه والجبرية سلبته كَمَال حكمته والطائفتان سلبته كَمَال حَمده وَأهل السّنة الْوسط أثبتوا كَمَال الْملك وَالْحَمْد وَالْحكمَة فوصفوه بِالْقُدْرَةِ التَّامَّة على كل شَيْء من الْأَعْيَان وأفعال الْعباد وَغَيرهم وأثبتوا لَهُ الْحِكْمَة التَّامَّة فِي جَمِيع خلقه وَأمره واثبتوا لَهُ الْحَمد كُله فِي جَمِيع مَا خلقه وَأمر بِهِ ونزهوه عَن دُخُوله تَحت شَرِيعَة يَضَعهَا الْعباد بآرائهم كَمَا نزهوه عَمَّا نزه نَفسه عَنهُ مِمَّا لَا يَلِيق بِهِ فاستولوا على محَاسِن الْمذَاهب وتجنبوا أَرْدَاهَا ففازوا بالقدح الْمُعَلَّى وَغَيرهم طَاف على أَبْوَاب الْمذَاهب ففاز باخس المطالب وَالْهدى هدى يخْتَص بِهِ من يَشَاء من عباده
فصل إِذا عرفت هَذِه الْمُقدمَة فَالْكَلَام على كَلِمَات النفاة من وُجُوه:
أَحدهَا قَوْلكُم لَو قدر الْإِنْسَان نَفسه وَقد خلق تَامّ الْخلقَة تَامّ الْعقل دفْعَة من غير تأدب بتأديب الْأَبَوَيْنِ وَلَا تعلم من معلم ثمَّ عرض عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحدهمَا أَن الْوَاحِد أَكثر من الِاثْنَيْنِ وَالْآخر أَن الْكَذِب قَبِيح لم يتَوَقَّف فِي الأول ويتوقف فِي الثَّانِي فَهَذَا تَقْدِير مُسْتَحِيل ركبتم عَلَيْهِ أمرا غير مَعْلُوم الصِّحَّة فَإِن تَقْدِير الْإِنْسَان كَذَلِك محَال
الْوَجْه الثَّانِي سلمنَا إِمْكَان التَّقْدِير لَكِن لم قُلْتُمْ بِأَنَّهُ لَا يتَوَقَّف فِي كَون الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ ويتوقف فِي كَون الْكَذِب قبيحا بعد تصور حَقِيقَته فَلَا نسلم أَنه إِذا تصور مَاهِيَّة الْكَذِب توقف فِي الْجَزْم بقبحه وَهل هَذَا إِلَّا دَعْوَة مُجَرّدَة الْوَجْه الثَّالِث سلمنَا أَنه قد يتَوَقَّف فِي الحكم بقبحه وَلَكِن لَا يلْزم من ذَلِك أَن لَا يكون قبيحا لذاته وقبحه مَعْلُوم لِلْعَقْلِ وَتوقف الذِّهْن فِي الحكم الْعقلِيّ لَا يُخرجهُ عَن كَونه عقليا وَلَا يجب التَّسَاوِي فِي العقليات إِذْ بَعْضهَا أَجلي من بعض فَإِن قُلْتُمْ فَهَذَا التَّوَقُّف يَنْفِي أَن يكون الحكم بقبحه ضَرُورِيًّا وَهُوَ يبطل قَوْلكُم
قُلْنَا هَذَا إِنَّمَا لزم من التَّقْدِير المستحيل فِي الْوَاقِع
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute