للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّأَمُّل يطلعك على أسرار الشَّرِيعَة ويشرفك على محاسنها وكمالها وبهجتها وجلالها وَأَنه من الْمُمْتَنع فِي حِكْمَة أحكم الْحَاكِمين أَن ترد بِخِلَاف مَا وَردت بِهِ وَأَن الله تَعَالَى يتنزه عَن ذَلِك كَمَا يتنزه عَن سَائِر مَالا يَلِيق بِهِ

وَمِمَّا يدل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَالا تعلمُونَ وَهَذَا دَلِيل على أَنَّهَا فواحش فِي نَفسهَا لَا تستحسنها الْعُقُول فَتعلق التَّحْرِيم بهَا لفحشها فَإِن تَرْتِيب الحكم على الْوَصْف الْمُنَاسب الْمُشْتَقّ يدل على أَنه هُوَ الْعلَّة الْمُقْتَضِيَة لَهُ وَهَذَا دَلِيل فِي جَمِيع هَذِه الْآيَات الَّتِي ذَكرنَاهَا فَدلَّ على أَنه حرمهَا لكَونهَا فواحش وَحرم الْخَبيث لكَونه خبيثا وَأمر بِالْمَعْرُوفِ لكَونه مَعْرُوفا وَالْعلَّة يجب أَن تغاير الْمَعْلُول فَلَو كَانَ كَونه فَاحِشَة هُوَ معنى كَونه مَنْهِيّا عَنهُ وَكَونه خبيثا هُوَ معنى كَونه محرما كَانَت الْعلَّة عين الْمَعْلُول وَهَذَا محَال فَتَأَمّله وَكَذَا تَحْرِيم الْإِثْم وَالْبَغي دَلِيل على أَن هَذَا وصف ثَابت لَهُ قبل التَّحْرِيم وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى وَلَا تقربُوا الزِّنَا أَنه كَانَ فَاحِشَة ومقتا وساء سَبِيلا فعلل النَّهْي فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِكَوْن الْمنْهِي عَنهُ فَاحِشَة وَلَو كَانَ جِهَة كَونه فَاحِشَة هُوَ النَّهْي لَكَانَ تعليلا للشَّيْء بِنَفسِهِ ولكان بِمَنْزِلَة أَن يُقَال لَا تقربُوا الزِّنَا فَإِنَّهُ يَقُول لكم لَا تقربوه أَو فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ وَهَذَا محَال من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه يتَضَمَّن إخلاء الْكَلَام من الْفَائِدَة وَالثَّانِي أَنه تَعْلِيل للنَّهْي بِالنَّهْي وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى وَلَوْلَا أَن تصيبهم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم فيقولوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك ونكون من الْمُؤمنِينَ فَأخْبر تَعَالَى أَن مَا قدمت أَيْديهم قبل الْبعْثَة سَبَب لإصابتهم بالمصيبة وَأَنه سُبْحَانَهُ لَو أَصَابَهُم بِمَا يسْتَحقُّونَ من ذَلِك لاحتجوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لم يُرْسل إِلَيْهِم رَسُولا وَلم ينزل عَلَيْهِم كتابا فَقطع هَذِه الْحجَّة بإرسال الرَّسُول وإنزال الْكتاب لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل وَهَذَا صَرِيح فِي أَن أَعْمَالهم قبل الْبعْثَة كَانَت قبيحة بِحَيْثُ استحقوا أَن يُصِيبُوا بهَا الْمُصِيبَة وَلكنه سُبْحَانَهُ لَا يعذب إِلَّا بعد إرْسَال الرُّسُل وَهَذَا هُوَ فصل الْخطاب

وَتَحْقِيق القَوْل فِي هَذَا الأَصْل الْعَظِيم أَن الْقبْح ثَابت للْفِعْل فِي نَفسه وَأَنه لَا يعذب الله عَلَيْهِ إِلَّا بعد إِقَامَة الْحجَّة بالرسالة وَهَذِه النُّكْتَة هِيَ الَّتِي فَاتَت الْمُعْتَزلَة والكلابية كليهمَا فاستطالت كل طَائِفَة مِنْهُمَا على الْأُخْرَى لعدم جَمعهمَا بَين هذَيْن الْأَمريْنِ فاستطالت الْكلابِيَّة على الْمُعْتَزلَة بإثباتهم الْعَذَاب قبل إرْسَال الرُّسُل وترتيبهم الْعقَاب على مُجَرّد الْقبْح الْعقلِيّ وأحسنوا فِي رد ذَلِك عَلَيْهِم واستطالت الْمُعْتَزلَة عَلَيْهِم فِي إنكارهم الْحسن والقبح العقليين جملَة وجعلهم انْتِفَاء الْعَذَاب قبل الْبعْثَة دَلِيلا على انْتِفَاء الْقبْح واستواء الْأَفْعَال فِي أَنْفسهَا وأحسنوا فِي رد هَذَا عَلَيْهِم فَكل طَائِفَة استطالت على الْأُخْرَى بِسَبَب إنكارها الصَّوَاب وَأما من سلك هَذَا المسلك الَّذِي سلكناه فَلَا سَبِيل لوَاحِدَة من الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى رد

<<  <  ج: ص:  >  >>