للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالصلوات فَقدم الْبَيْت الْحَرَام عَلَيْهِ فِي الِاسْتِقْبَال لِأَن مصْلحَته أعظم وأكمل وَبَقِي قَصده وَشد الرّحال إِلَيْهِ وَالصَّلَاة فِيهِ منشأ للْمصْلحَة فتمت للْأمة المحمدية المصلحتان المتعلقتان بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَهَذَا نِهَايَة مَا يكون من اللطف وَتَحْصِيل الْمصَالح وتكميلها لَهُم فَتَأمل هَذَا الْموضع وَمن ذَلِك نسخ التَّخْيِير فِي الصَّوْم بتعيينه فَإِن لَهُ بَقَاء وبيانا ظَاهرا وَهُوَ أَن الرجل كَانَ إِذا أَرَادَ أفطر وَتصدق فحصلت لَهُ مصلحَة الصَّدَقَة دون مصلحَة الصَّوْم وَإِن شَاءَ صَامَ وَلم يفد فحصلت لَهُ مصلحَة الصَّوْم دون الصَّدَقَة فحتم الصَّوْم على الْمُكَلف لِأَن مصْلحَته أتم وأكمل من مصلحَة الْفِدْيَة وَندب إِلَى الصَّدَقَة فِي شهر رَمَضَان فَإِذا صَامَ وَتصدق حصلت لَهُ المصلحتان مَعًا وَهَذَا أكمل مَا يكون من الصَّوْم وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَفْعَله النَّبِي فَإِنَّهُ كَانَ أَجود مَا يكون فِي رَمَضَان فَلم تبطل الْمصلحَة الأولى جملَة بل قدم عَلَيْهَا مَا هُوَ أكمل مِنْهَا وجوبا وَشرع الْجمع بَينهَا وَبَين الْأُخْرَى ندبا واستحبابا وَمن ذَلِك نسخ ثبات الْوَاحِد من الْمُسلمين للعشرة من الْعَدو بثباته للإثنين وَلم تبطل الْحِكْمَة الأولى من كل وَجه بل بَقِي اسْتِحْبَابه وَإِن زَالَ وُجُوبه بل إِذا غلب على ظن الْمُسلمين ظفرهم بعدوهم وهم عشرَة أمثالهم وَجب عَلَيْهِم الثَّبَات وَحرم عَلَيْهِم الْفِرَار فَلم تبطل الْحِكْمَة الأولى من كل وَجه وَمن ذَلِك نسخ وجوب الصَّدَقَة بَين يَدي مُنَاجَاة الرَّسُول لم يبطل حكمه بِالْكُلِّيَّةِ بل نسخ وُجُوبه وَبَقِي اسْتِحْبَابه وَالنَّدْب إِلَيْهِ وَمَا علم من تنبيهه وإشارته وَهُوَ أَنه إِذا استحبت الصَّدَقَة بَين يَدي مُنَاجَاة الْمَخْلُوق فاستحبابها بَين يَدي مُنَاجَاة الله عِنْد الصَّلَوَات وَالدُّعَاء أولى فَكَانَ بعض السّلف الصَّالح يتَصَدَّق بَين يَدي الصَّلَاة وَالدُّعَاء إِذا أمكنه ويتأول هَذِه الْأَوْلَوِيَّة وَرَأَيْت شيخ الْإِسْلَام ابْن تيمة يَفْعَله ويتحراه مَا أمكنه وفاوضته فِيهِ فَذكر لي هَذَا التَّنْبِيه وَالْإِشَارَة وَمن ذَلِك نسخ الصَّلَوَات الْخمسين الَّتِي فَرضهَا الله على رَسُوله لَيْلَة الْإِسْرَاء بِخمْس فَإِنَّهَا لم تبطل بِالْكُلِّيَّةِ بل اثبتت خمسين فِي الثَّوَاب وَالْأَجْر خمْسا فِي الْعَمَل وَالْوُجُوب وَقد أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا بِعَيْنِه حَيْثُ يَقُول على لِسَان نبيه لَا يُبدل القَوْل لَدَى هِيَ خمس وَهِي خَمْسُونَ فِي الْأجر فَتَأمل هَذِه الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَالنعْمَة السابغة فَإِنَّهُ لما اقْتَضَت الْمصلحَة أَن تكون خمسين تكميلا للثَّواب وسوقا لَهُم بهَا إِلَى أعلا الْمنَازل واقتضت أَيْضا أَن تكون خمْسا لعجز الْأمة وضعفهم وَعدم احتمالهم الْخمسين جعلهَا خمْسا من وَجه وَخمسين من وَجه جمعا بَين الْمصَالح وتكميلا لَهَا وَلَو لم نطلع من حكمته فِي شَرعه وَأمره ولطفه بعباده ومراعاة مصالحهم وتحصيلها لَهُم على أتم الْوُجُوه إِلَّا على هَذِه الثَّلَاثَة وَحدهَا لكفى بهَا دَلِيلا على مَا راءها فسبحان من لَهُ فِي كل مَا خلق وَأمر حِكْمَة بَالِغَة شاهدة لَهُ بِأَنَّهُ أحكم الْحَاكِمين وأرحم الرَّاحِمِينَ وَأَنه الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ رب الْعَالمين وَمن ذَلِك الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين فَإِنَّهَا كَانَت وَاجِبَة على من حَضَره الْمَوْت ثمَّ نسخ الله ذَلِك بِآيَة الْمَوَارِيث وَبقيت مَشْرُوعَة فِي حق الْأَقَارِب الَّذين لَا يَرِثُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>