للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلم يُمكن تَحْقِيق هَذِه الْمرتبَة السّنيَّة الا بموافقة رِضَاهُ وَأَتْبَاع امْرَهْ وَترك إرادات النَّفس وشهواتها الَّتِي يكرهها محبوبهم فأنزلهم دَارا امرهم فِيهَا ونهاهم فَقَامُوا بأَمْره وَنَهْيه فنالوا دَرَجَة محبتهم لَهُ فأنالهم دَرَجَة حبه إيَّاهُم وَهَذَا من تَمام حكمته وَكَمَال رَحمته وَهُوَ الْبر الرَّحِيم وايضا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لما خلق خلقه اطوارا وأصنافا وَسبق فِي حكمه تفضيله آدم وبنيه على كثير من مخلوقاته جعل عبوديته افضل درجاتهم اعنى الْعُبُودِيَّة الاختيارية الَّتِي يأْتونَ بهَا طَوْعًا واختيارا لَا كرها واضطرارا وَقد ثَبت ان الله سُبْحَانَهُ ارسل جِبْرِيل الى النَّبِي يخيره بَين ان يكون ملكا نَبيا اَوْ عبدا نَبيا فَنظر الى جِبْرِيل كالمستشير لَهُ فاشار اليه ان تواضع فَقَالَ بل ان اكون عبدا نَبيا فَذكره سُبْحَانَهُ باسم عبوديته فِي أشرف مقاماته فِي مقَام الاسراء ومقام الدعْوَة ومقام التحدي فَقَالَ فِي مقَام الاسراء {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وَلم يقل بِرَسُولِهِ وَلَا نبيه إِشَارَة الى انه قَامَ هَذَا الْمقَام الاعظم بِكَمَال عبوديته لرَبه وَقَالَ فِي مقَام الدعْوَة {وَأَنه لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا} وَقَالَ فِي مقَام التحدي وَإِن كُنْتُم فِي ريب مِمَّا نزلنَا على عَبدنَا فَأتوا بِسُورَة من مثله وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيث الشَّفَاعَة وتراجع الانبياء فِيهَا وَقَول الْمَسِيح اذْهَبُوا الى مُحَمَّد عبد غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر فَدلَّ ذَلِك على انه نَالَ ذَلِك الْمقَام الاعظم بِكَمَال عبوديته لله وَكَمَال مغْفرَة الله لَهُ وَإِذا كَانَت الْعُبُودِيَّة عِنْد الله بِهَذِهِ الْمنزلَة اقْتَضَت حكمته ان اسكن آدم وَذريته دَارا ينالون فِيهَا هَذِه الدرجَة بِكَمَال طاعتهم لله وتقربهم اليه بمحابه وَترك مألوفاتهم من اجله فَكَانَ ذَلِك من تَمام نعْمَته عَلَيْهِم وإحسانه اليهم وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ ان يعرف عباده الَّذين انْعمْ عَلَيْهِم تَمام نعْمَته عَلَيْهِم وقدرها ليكونوا اعظم محبَّة وَأكْثر شكرا واعظم التذاذا بِمَا اعطاهم من النَّعيم فَأَرَاهُم سُبْحَانَهُ فعله بأعدائه وَمَا اعد لَهُم من الْعَذَاب وانواع الالام واشهدهم تخليصهم من ذَلِك وتخصيصهم بِأَعْلَى انواع النَّعيم لِيَزْدَادَ سرورهم وتكمل غبطتهم ويعظم فَرَحهمْ وتتم لذتهم وَكَانَ ذَلِك من إتْمَام الانعام عَلَيْهِم ومحبتهم وَلم يكن بُد فِي ذَلِك من إنزالهم الى الارض وامتحانهم واختبارهم وتوفيق من شَاءَ مِنْهُم رَحْمَة مِنْهُ وفضلا وخذلان من شَاءَ مِنْهُم حِكْمَة مِنْهُ وعدلا وَهُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم وَلَا ريب ان الْمُؤمن إِذا رأى عدوه ومحبوبه الَّذِي هُوَ أحب الاشياء اليه فِي أَنْوَاع الْعَذَاب والالام وَهُوَ يتقلب فِي انواع النَّعيم واللذة ازْدَادَ بذلك سُرُورًا وعظمت لذته وكملت نعْمَته وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خلق الْخلق لعبادته وَهِي الْغَايَة مِنْهُم قَالَ تَعَالَى وَمَا خلقت الْجِنّ والانس الا ليعبدون وَمَعْلُوم ان كَمَال الْعُبُودِيَّة الْمَطْلُوب من الْخلق لَا يحصل فِي دَار النَّعيم والبقاء إِنَّمَا يحصل فِي دَار المحنة والابتلاء وَأما دَار الْبَقَاء فدار لَذَّة ونعيم لَا دَار ابتلاء وامتحان وتكليف

<<  <  ج: ص:  >  >>