للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَوِ اكْتَفَى بِالسِّرِّ جَازَ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْمُزَكِّي: هُوَ عَدْلٌ (ف) جَائِزُ الشَّهَادَةِ،

ــ

[الاختيار لتعليل المختار]

أَوْ قَرَابَةٍ؛ وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ وُلِدَ غَيْرَ فَاسِقٍ، وَالْفِسْقُ أَمْرٌ طَارِئٌ مَظْنُونٌ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْأَصْلِ بِالظَّنِّ، وَلَا يَلْزَمُ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّاهِدِ الْعَدَالَةُ كَذَلِكَ الْأَصْلُ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ الْعَدَالَةُ، وَالشَّاهِدُ وَصَفَهُ بِالزِّنَا وَالْقَتْلِ فَتَقَابَلَ الْأَصْلَانِ فَرَجَّحْنَا بِالْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ مَبْنَاهَا عَلَى الْإِسْقَاطِ فَيُسْأَلُ عَنْهُمْ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْحَاكِمَ يَجِبُ أَنْ يَحْتَاطَ فِي حُكْمِهِ صِيَانَةً لَهُ عَنِ النَّقْضِ وَذَلِكَ بِسُؤَالِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ.

(وَلَوِ اكْتَفَى بِالسِّرِّ جَازَ) .

قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَفْتَى فِي زَمَانٍ كَانَتِ الْعَدَالَةُ فِيهِ ظَاهِرَةً، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَدَّلَ أَهْلَهُ وَقَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» وَاكْتَفَى بِتَعْدِيلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي زَمَنِهِمَا فَشَا الْكَذِبُ فَاحْتَاجَا إِلَى السُّؤَالِ، وَلَوْ كَانَا فِي زَمَانِهِ مَا سَأَلَا، وَلَوْ كَانَ فِي زَمَنِهِمَا لَسَأَلَ، فَلِهَذَا قُلْنَا: الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَلَقَدْ تَصَفَّحْتُ كَثِيرًا مِنْ كُتُبِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ فَمَا رَأَيْتُهُ رَجَّحَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلَ غَيْرِهِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا رَجَّحَ قَوْلَهُمَا لِمَا رَأَى مِنْ فَسَادِ أَهْلِ الزَّمَانِ، وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِمْ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَكَانَ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُنَقِّبَ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَى الشَّاهِدِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: (وَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْمُزَكِّي هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ) لِأَنَّ الْعَبْدَ عَدْلٌ غَيْرُ جَائِزِ الشَّهَادَةِ؛ وَقِيلَ يَكْتَفِي بِقَوْلِهِ هُوَ عَدْلٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْحُرِّيَّةُ تَبَعًا لِلدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا عِنْدَهُ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ، وَقَدْ كَانُوا يَكْتَفُونَ بِتَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ، ثُمَّ انْضَمَّ إِلَيْهَا تَزْكِيَةُ السِّرِّ فِي زَمَانِنَا لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ، ثُمَّ قِيلَ يَكْتَفِي بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ تَحَرُّزًا عَنِ الْفِتْنَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ، ثُمَّ لَا بُدَّ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُزَكِّي وَالشَّاهِدِ لِتَنْتَفِيَ شُبْهَةُ تَعْدِيلِ غَيْرِهِ. وَتَزْكِيَةُ السِّرِّ أَنْ يَبْعَثَ رُقْعَةً مَخْتُومَةً إِلَى الْمُزَكِّي فِيهَا اسْمُ الشَّاهِدِ وَنَسَبُهُ وَحِلْيَتُهُ وَمُصَلَّاهُ، وَيَرُدُّهَا الْمُزَكِّي كَذَلِكَ سِرًّا، وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَخْتَارَ لِلْمَسْأَلَةِ عَنِ الشُّهُودِ أَوْثَقَ النَّاسِ وَأَوْرَعَهُمْ دِيَانَةً وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً وَأَكْثَرَهُمْ بِالنَّاسِ خِبْرَةً وَأَعْلَمَهُمْ بِالتَّمْيِيزِ، غَيْرَ مَعْرُوفِينَ بَيْنَ النَّاسِ لِئَلَّا يُقْصَدُوا بِسُوءٍ أَوْ يُخْدَعُوا، وَيَنْبَغِي لِلْمُزَكِّي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ وَيَتَعَرَّفَهَا مِنْ جِيرَانِهِمْ وَأَهْلِ سُوقِهِمْ، فَإِنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُمْ عِنْدَهُ كَتَبَ ذَلِكَ فِي آخِرِ الرُّقْعَةِ: هُوَ عَدْلٌ عِنْدِي جَائِزُ الشَّهَادَةِ، وَإِلَّا كَتَبَ: إِنَّهُ غَيْرُ عَدْلٍ، وَخَتَمَ الرُّقْعَةَ وَرَدَّهَا، فَيَقُولُ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي زِدْ فِي شُهُودِكَ وَلَا يَقُولُ جُرِحُوا، وَيُقْبَلُ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ قَوْلُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَكُلِّ ذِي رَحِمٍ وَالْعَبْدِ وَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَارٌ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَالشُّهُودُ الْكُفَّارُ يُعَدِّلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمُ

<<  <  ج: ص:  >  >>