وَالْمُرْتَدَّةُ لَا تُقْتَلُ، وَتُحْبَسُ وَتُضْرَبُ فِي كُلِّ الْأَيَّامِ حَتَّى تُسْلِمَ وَلَوْ قَتَلَهَا إِنْسَانٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيُعَزَّرُ، وَتَصَرُّفُهَا فِي مَالِهَا جَائِزٌ، فَإِنْ لَحِقَتْ أَوْ مَاتَتْ فَكَسْبُهَا لِوَرَثَتِهَا.
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَالْمُبَرْسِمِ وَالْمَعْتُوهِ وَمَنْ سُقِيَ شَيْئًا فَزَالَ عَقْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا، وَمَنْ يُجَنُّ وَيَفِيقُ فَفِي حَالِ جُنُونِهِ لَهُ أَحْكَامُ الْمَجَانِينِ، وَفِي حَالِ إِفَاقَتِهِ أَحْكَامُ الْعُقَلَاءِ، وَرِدَّةُ السَّكْرَانِ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ اسْتِحْسَانًا، وَإِسْلَامُهُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنِ اعْتِقَادٍ أَوْ لَا، وَالْإِسْلَامُ يُحْتَالُ فِي إِثْبَاتِهِ وَالْكُفْرُ فِي نَفْيِهِ فَافْتَرَقَا. وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبِينَ امْرَأَةُ السَّكْرَانِ لِأَنَّ الْكُفْرَ سَبَبٌ لِلْفُرْقَةِ كَالطَّلَاقِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الرِّدَّةَ لَيْسَتْ بِفُرْقَةٍ، وَإِنَّمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ لِاخْتِلَافِ الدِّينِ وَرِدَّتُهُ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ فَلَا يَخْتَلِفُ الدِّينُ.
وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صَبِيِّ أَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ كَبُرَ كَافِرًا وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا بَلَغَ، قَالَ: لَا يُقْتَلُ وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ مَنْ أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا بَلَغَ ثُمَّ كَفَرَ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِفِعْلِهِ وَإِنَّمَا بِالتَّبَعِيَةِ، وَحُكْمُ أَكْسَابِهِ كَالْمَرْأَةِ.
قَالَ: (وَالْمُرْتَدَّةُ لَا تُقْتَلُ، وَتُحْبَسُ وَتُضْرَبُ فِي كُلِّ الْأَيَّامِ حَتَّى تُسْلِمَ) وَمَعْنَاهُ يُعْرَضُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَبَتْ ضَرَبَهَا أَسْوَاطًا ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَإِنْ أَبَتْ حَبَسَهَا. وَفِي رِوَايَةٍ تُخْرَجُ كُلَّ يَوْمٍ وَتُضْرَبُ عَلَى مَا وَصَفْنَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهَا وَقَدِ ارْتَكَبَتْ جَرِيمَةً عَظِيمَةً وَلَا حَدَّ فِيهَا فَتُعَزَّرُ، وَالتَّعْزِيرُ الضَّرْبُ وَالْحَبْسُ، وَإِنَّمَا لَا تُقْتَلُ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا، وَلِأَنَّ كُفْرَهَا الْأَصْلِيَّ لَا يُبِيحُ دَمَهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ الطَّارِئُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ السِّيَرِ أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقَتْلِ أَهْلِيَّتُهُ لِلْقِتَالِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ السَّبَبُ بِقَوْلِهِ: «مَا لَهَا قُتِلَتْ وَلَمْ تُقَاتِلْ» ؛ " وَحَدِيثُ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ فَدَلَّ عَلَى تَقْيِيدِهِ بِالرِّجَالِ.
قَالَ: (وَلَوْ قَتَلَهَا إِنْسَانٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ إِطْلَاقَ النَّصِّ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ يُؤَدَّبُ (وَيُعَزَّرُ) إِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ.
قَالَ: (وَتَصَرُّفُهَا فِي مَالِهَا جَائِزٌ) إِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا، لِأَنَّ عِصْمَةَ الْمَالِ تَتْبَعُ عِصْمَةَ النَّفْسِ، وَعِصْمَةُ نَفْسِهَا لَمْ تَزَلْ، وَبَعْدَ اللَّحَاقِ زَالَتْ عِصْمَةُ نَفْسِهَا، وَلِهَذَا لَا تُسْتَرَقُ مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ بِدَارِ اسْتِرْقَاقٍ، وَإِنْ لَحِقَتْ ثُمَّ سُبِيَتِ اسْتُرِقَّتْ وَأُجْبِرَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَرَقُّوا نِسَاءَ بَنِي حَنِيفَةَ بَعْدَ مَا ارْتَدُّوا وَأُمُّ مُحَمَّدٍ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمْ، وَلَا تُقْتَلُ كَالْأَصْلِيَّةِ.
(فَإِنْ لَحِقَتْ أَوْ مَاتَتْ) فِي الْحَبْسِ (فَكَسْبُهَا لِوَرَثَتِهَا) إِذْ مِلْكُهَا ثَابِتٌ فِيهِمَا لِمَا بَيَّنَّا فَيَنْتَقِلَانِ إِلَى وَرَثَتِهَا، وَلَا مِيرَاثَ لِزَوْجِهَا لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالرِّدَّةِ وَلَمْ تَصِرْ مُشْرِفَةً عَلَى الْهَلَاكِ فَلَا تَكُونُ فَارَّةً، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ