للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا؛ وَمَنْ حَمَلَ خَمْرًا لِذِمِّيٍّ طَابَ (سم) لَهُ الْأَجْرُ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السِّرْقِينِ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ، وَيُكْرَهُ بَيْعُ (سم) أَرْضِهَا؛

ــ

[الاختيار لتعليل المختار]

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الِاحْتِكَارُ فِي كُلِّ مَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ نَظَرًا إِلَى أَصْلِ الضَّرَرِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الِاحْتِكَارُ فِي أَقْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ كَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَأَقْوَاتِ الْبَهَائِمِ كَالْقَتِّ نَظَرًا إِلَى الضَّرَرِ الْمَقْصُودِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الِاحْتِكَارِ، قِيلَ أَقَلُّهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِاحْتِكَارٍ لِعَدَمِ الضَّرَرِ بِالْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ؛ وَقِيلَ أَقَلُّهُ شَهْرٌ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ، ثُمَّ قِيلَ يَأْثَمُ بِنَفْسِ الِاحْتِكَارِ وَإِنْ قَلَّتِ الْمُدَّةُ، وَإِنَّمَا بَيَانُ الْمُدَّةِ لِبَيَانِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ التِّجَارَةَ فِي الطَّعَامِ مَكْرُوهٌ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْمَقْتَ فِي الدُّنْيَا وَالْإِثْمَ فِي الْآخِرَةِ.

قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا) لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَقُومُ بِعَيْنِهِ بَلْ بَعْدَ تَغَيُّرِهِ. قَالَ: (وَمِنْ حَمَلَ خَمْرًا لِذِمِّيٍّ طَابَ لَهُ الْأَجْرُ) وَقَالَا: يُكْرَهُ لِأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَعَنَ اللَّهُ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا " وَعَدَّ مِنْهُمْ " حَامِلَهَا» وَلَهُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ شُرْبُهَا، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ وَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ الْحَمْلُ لِقَصْدِ الْمَعْصِيَةِ حَتَّى لَوْ حَمَلَهَا يُرِيقُهَا أَوْ لِيُخَلِّلُهَا جَازَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إِذَا آجَرَ بَيْتًا لِيَتَّخِذَهُ بَيْتَ نَارٍ أَوْ بَيْعَةً أَوْ كَنِيسَةً فِي السَّوَادِ. لَهُمَا أَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَهُ أَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ حَتَّى وَجَبَتِ الْأُجْرَةُ بِالتَّسْلِيمِ وَلَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَالْمَعْصِيَةُ فِعْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِي ذَلِكَ.

قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السِّرْقِينِ) لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ يُلْقَى فِي الْأَرَاضِي طَلَبًا لِكَثْرَةِ الرِّيعِ، وَيَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَّةُ وَتُبْذَلُ الْأَعْوَاضُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَكَانَ مَا لَا يَجُوزُ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، بِخِلَافِ الْعَذِرَةِ فَإِنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ الْخَلْطِ، وَبَعْدَ الْخَلْطِ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بَعْدَ الْخَلْطِ بِهَا كَزَيْتٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ.

قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ وَيُكْرَهُ بَيْعُ أَرْضِهَا) وَكَذَا الْإِجَارَةُ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ دُورِ مَكَّةَ وَفِيهَا الشُّفْعَةُ، وَيُكْرَهُ إِجَارَتُهَا فِي الْمَوْسِمِ، وَقَالَا: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ أَرْضِهَا لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهَا الِاخْتِصَاصَ الشَّرْعِيَّ فَيَجُوزُ كَالْبِنَاءِ. وَلَهُ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَكَّةُ حَرَامٌ وَبَيْعُ رِبَاعِهَا حَرَامٌ» ؛ وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَكَّةُ مُبَاحٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلَا تُؤَاجَرُ بُيُوتُهَا» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَكَانَتْ تُدْعَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ السَّوَائِبَ، مَنْ شَاءَ سَكَنَ وَمَنِ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ، وَلِأَنَّهَا مِنَ الْحَرَمِ يَحْرُمُ صَيْدُهَا، وَلَا يَحِلُّ دُخُولُهَا لِنَاسِكٍ إِلَّا بِإِحْرَامٍ فَيَحْرُمُ بَيْعُهَا كَالْكَعْبَةِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْمَسْعَى، وَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُ الْبِنَاءِ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ مُحَرَّمَةٌ، وَقَفَهَا إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وَالْبِنَاءُ مِلْكٌ لِمَنْ أَحْدَثَهُ فَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، وَالطِّينُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>