وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رصوا" مأخوذ من الرصّ، فيقال: رصّ الباء يرصّه رصًّا، إذا ألصق بعضه ببعض، ومنه قوله تعالى: {كأنهم بنيان مرصوص}. ولا تتأتى هذه الصفة إلا بالالتزام بالتوجيهات النبوية، من المحاذاة بالأعناق، والأكتاف، والأقدام: وسدد الخلل، واللين للآخرين، وعدم ترك فرجات في الصف. وكل هذا فهمه الصحابة رضي الله عنهم من أقواله - صلى الله عليه وسلم -، وننقل هنا عن لعضهم ما يؤيد ذلك فعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقيموا صفوفكم، فإني أراكم من وراء ظهري"، وكان أحدنا يُلْزِقُ مَنْكِبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه. رواه البخاري (٧٢٥). قال الحافظ: أفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته". قلت: وفي رواية الإسماعيلي من طريق معمر قال: "ولو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر، كأنه بغل شموس". والشموس: هو النَّفُور من الدواب الذي لا يستقر؛ لشغبه وحدَّته. ولم يتفرد أنس بنقل هذه الصفحة عن الصحابة، ولكن نقلها أيضًا النعمان بن بشير فقال: فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه. رواه أبو داود (٦٦٢) بسند صحيح، وعلقه البخاري (٢/ ٢١١/ فتح). ولا يفوتني هنا أن أنبه أن هذه الصفة التي نقلها لنا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعملوا بها قد ظلمت من بعض الناس، وزعموا أن هذه الصفة ليست من السنة! والجواب على هؤلاء من أبسط ما يمكن: لأن هذه الصفة كان عُمل بها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة رضوان الله عليهم، كما تقدم النقل عن الحافظ ابن حجر. فإن قال قائل: هذا من فعك الصحابة؟! قلنا: الجواب على ذلك من وجهين أما الأول: فقد رأى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقرهم عليه، أليس هو القائل في أول حديث أنس: "أقيموا صفوفكم، وتراصوا؛ فإني أراكم من وراء ظهري". رواه البخاري. ففي هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رآهم على ذلك، وأقرهم عليه، إذ لو كان خطأً لنهاهم عن =