للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أتكون دعوى غلو ومجازفة أم دعوى حق وإنصاف؟

وقد تبين مما ذكرنا أن عليًّا عليه السلام تعلم العلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الصبا والشبيبة بخلاف عمر رضي الله عنه، وأن عمر ابتدأ بالتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علي بعد أن سبقه وتعلم قبله بخمس عشرة سنة على أقل ما روي من عمره يوم بعثته وهو عشر سنين، وأما على ما روي من أن عمره يوم البعثة كان خمس عشرة (١) سنة فيكون قد سبقه بعشرين سنة، فما يقال لهذا التلميذ الذي دخل المدرسة وابتدأ بالتعلم وهو ابن تسع وعشرين سنة، ولم يكن (٢)

معروفًا بحدة الذهن وتوقد


(١) اختلفت الروايات وتعددت في تحديد عمر علي رضي الله عنه وقت إسلامه بناء على الاختلاف في سنة ولادته رضي الله عنه، والقول الذي أشار إليه عبد الحسين مذكور عن الحسن البصري كما في المعجم الكبير للطبراني (١/٥٤) , وذكر ابن إسحاق أن ولادته قبل البعثة بعشر سنين , ورجح ابن حجر قوله , وورد عن محمد الباقر رحمه الله قولان: الأول: كالذي ذكره بن إسحاق وهو عشر سنين كما المعجم الكبير اللطبراني (١/٥٣) بإسناد حسنٍ إليه، ورجحه ابن حجر، وأما الثاني: فيذكر أنه ولد قبل البعثة بخمس سنين كما في المصدر السابق، والأقرب هو ما اتفق عليه قولٌ لأبي جعفر الباقر رحمه الله مع قول ابن إسحاق واختيار الحافظ ابن حجر فيكون مولد علي رضي الله عنه قبل البعثة بعشر سنين.
(٢) قال عبد الحسين في الحاشية: ((روى المحدث الجليل الموثق عند إخواننا وهو محمد بن سعد في الطبقات جزء ٣ صفحة ٢٧٣ بإسناده عن أبي هريرة قال: (قدمت على عمر رضي الله عنه من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم فقال لي: بما قدمت؟ قلت: بثمانمائة ألف درهم، فقال لي: ألم أقل لك: إنك يمانيٌّ أحمق، إنك قدمت بثمانين ألفًا، فقلت: يا أمير المؤمنين إنما قدمت بثمانمائة ألف درهم، فجعل يعجب ويكررها، فقال: ويحك وكم ثمانمائة ألف درهم؟ فعددت مائة ألف ومائة ألف حتى عددت ثمانية)
وروى أيضًا أنه قرأ قوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) (عبس: ٣١) فقال: ما الأب؟ هو التكلف، فما عليك أن لا تدري ما الأب؟ وروى أحمد في مسنده أن عمر رضي الله عنه لم يعرف حكم الشك في الصلاة صفحة ١٩٠ وروي فيه أيضًا أنه أمر برجم مجنونة زنت فانتزعها منه علي عليه السلام وأخبر عمر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رُفع القلم عن الصبي حتى يكبر، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يعقل) فرجع إلى قوله، وروى أبو الفرج في الجزء الثاني من كتابه (الأغاني صفحة ٥٣) أن الزبرقان بن بدر شكا إلى عمر رضي الله عنه الحطيئة الشاعر حين هجاه فقال: ما قال؟ فأنشده:
دع المكارم لا تنهض لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فقال: ما أراه هجاء، فقال: بل هجاني يا أمير المؤمنين، فسأل حسان فقال: بل سلح عليه)) . اهـ
أقول: سيأتي الجواب على ما نقله عبد الحسين عن طبقات ابن سعد عن أبي هريرة رضي الله عنه في موضع لاحق، وأما الأثر الوارد حول قوله تعالى {وفاكهة وأبا} فقد ذكره ابن كثير ٨/٣٤٨ بسند الطبري ثم قال: ((فهو إسناد صحيح، وقد رواه غير واحد عن أنس، به، وهو محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه، وإلا فهو وكل من قرأ الآية يعلم أنه من نبات الأرض، لقوله {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} )) .
وذكر الطاهر ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير ٣٠ / ١٣٨ إن ذلك القول من عمر رضي الله عنه قد يرجع لأحد سببين:
١ - إما لأن هذا اللفظ كان قد تنوسي من استعمالهم فأحياه القرآن لرعاية الفاصلة فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان وتُنسى في بعضها مثل اسم السِّكين عندَ الأوس والخزرج، فقد قال أنس بن مالك: (ما كُنَّا نَقول إلا المُدْية حتى سمعت قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يذكر أن سليمان عليه السلام قال: ((ائيتوني بالسكين أقْسِمْ الطفْلَ بينهما نصفين)) ، وكما في كلمة {فاطر} وعدم علم ابن عباس رضي الله عنهما حتى سمع استعمال أعرابي لها في سياق أوضح معناها.
٢ - وإما لأن كلمة الأبّ تطلق على أشياء كثيرة منها النبت الذي ترعاه الأنعام، ومنها التبن، ومنها يابس الفاكهة، فكان إمساك أبي بكر وعمر عن بيان معناه لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين، وهل الأبّ مما يرجع إلى قوله {متاعاً لكم} أو إلى قوله {ولأنعامكم} في جمْع ما قُسِّم قبله)) . اهـ بتصرف
وأما الأثران اللذان يليان هذا الأثر وهما: رجم المجنونة التي زنت، وأثر هجاء الحطيئة للزبرقان، فإنهما لا يثبتان سنداً.

<<  <  ج: ص:  >  >>