الوجه الثاني- أنهم إنما لم يفعلوا ذلك في الحدود، لفقدان الأصول التي يكون إليها الاستناد، وعليها القياس، وقد وجد للشارب أصل، وهو القاذف. ولو قدرنا تتابع الناي في القذف، فبأي أصل نلحقه بناء على أنه وسيلة إليه، وسبب فيه؟ وكذلك القول في الزنا والسرقة. وهذه المسألة من أغمض مسائل الشريعة، والسؤال في غاية الغموض، والجواب حسن في الباب.
[مثال] آخر: قضى الخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - بتضمين الصناع، قال علي - رضي الله عنه -: "لا يصلح الناس إلا ذلك". ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون على الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط، وترك الحفظ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم، لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك أمر يشق على الخلق، ويضيق معه الوجود، أو يعملون ولا يضمنون عند دعوى الضياع والهلاك، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الجناية، فكانت المصلحة في التضمين. هذا (١٦٠/ أ) معنى قول أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -: "لا يصلح العامة غلا ذلك".
فإن قيل:[في] هذا أيضًا نوع من الفساد، وهو تضمين من عنيناه، [لا] أتلف، ولا فرّط، [فالتضمين] مع الإمكان، نوع من الفساد. [قلنا]: قد قررنا ما في ترك التضمين من المفسدة العامة، وفي مقابلتها أيضًا