للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويدلُّ على ذلكَ أمرانِ يظهرانِ باستقراءِ كتبِ معاني القرآنِ:

الأول: جِدَّةُ كثيرٍ من المباحثِ اللُّغويِّةِ التي طرقَهَا اللُّغويُّون، وطريقةُ عرضِها على ما ذكرَه السَّلفُ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ، مما يجعلُكَ تشعرُ أنَّ اللُّغويِّينَ يَرَوْنَ نقصاً في هذا البابِ، فاجتهدوا في إتمامِه لمكانِ تخصصهم.

الثاني: أن اللُّغويِّينَ لم يعتبِروا ما جاء عن السَّلفِ من تفسيرٍ لغويٍّ، حتى جعلوا أقوالَهم مقابلَ أقوالِ السَّلفِ، ويدلُّ على ذلك: أن الرِّواياتِ المنقولةَ عن السَّلفِ التي تتعلقُ بالتَّفسيرِ اللُّغويِّ في كتبِ معاني القرآنِ قليلة، سوى ابن قتيبة (ت:٢٧٦) في غريب القرآنِ، النَّحَّاس (ت:٣٣٨) في معاني القرآنِ؛ لأنهما قصدا نقل أقوال السَّلف.

وطريقة عرض اللُّغويِّين للموجود من الرِّوايات يدلُّ على أن المفسِّرينَ إنما يؤخذ عنهم ما لا علاقة له باللُّغة، ذلك أنك إذا تأمَّلتَ التَّفسيرَ الذي يحكيه اللُّغويُّونَ عن السَّلفِ ويصدرونه بعبارة: «قال المفسرون»، وعبارة «وجاء في التفسير» وأشباههما، وجدتها ـ في الغالب ـ مما لا يؤخذ عن اللُّغةِ، ومثالُ ذلكَ ما ذكرَه الفرَّاءُ (ت:٢٠٧) في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: ١١٠] حيث قال: «في التَّأويل: في اللَّوحِ المحفوظِ، ومعناه: أنتم خيرُ أمَّةٍ؛ كقولِه: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: ٧٦] و {إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: ٢٦]، فإضمارُ (كان) في مثلِ هذا وإظهارُها سواء» (١).

فتراهُ جعلَ المعنى والتَّأويلَ ـ أي: التَّفسيرَ ـ متغايرينِ، لِما ذَكَرْتُ لكَ منْ أنَّ المعنى: ما كانَ مأخذُه من طريقِ اللُّغةِ، والتَّفسيرَ: ما لا يتأتَّى ـ في الغالبِ ـ منْ طريقِ اللُّغةِ، ويَنْسِبُونَهُ للمُفسِّرينَ.

ونتجَ عنْ ذلكَ أنْ أعرضَ اللُّغويُّون ـ في بعضِ المواطنِ ـ عن تفسيرِ


(١) معاني القرآن، للفراء (١:٢٢٩).

<<  <   >  >>