للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

السَّلفِ اللُّغويِّ، كمَا وقعَ للفرَّاءِ (ت:٢٠٧) في قولِه تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: ٢٩] حيثُ قالَ: «الاستواءُ في كلامِ العربِ على جهتينِ: إحداهُمَا أن يَسْتَوِي الرَّجُلُ وينتهِي شبابُه.

أو يَسْتَوِيَ عنِ اعْوِجَاجٍ، فهذان وجهانِ.

ووجهُ ثالثٌ أنْ تقولَ: كانَ مُقْبِلاً عَلَى فلانٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيَّ يُشَاتِمُنِي، و (إليَّ) سواءٌ، على معنى: أقبل إليَّ وعليَّ، فهذا معنى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: ٢٩]؛ والله أعلم. وقال ابن عباس: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: ٢٩] صَعِدَ، وهذا كقولك للرجلِ: كانَ قائماً فاستوى قاعداً، وكانَ قاعداً فاستوى قائماً، وكُلٌّ في كلامِ العربِ جائزٌ» (١).

في هذا النصِّ ترى الفَرَّاءَ (ت:٢٠٧) قدْ ذكرَ معانيَ (استوى) في لغةِ العرب، ثُمَّ ذكرَ قولَ ابنِ عبَّاسٍ (ت:٦٨)، وجوَّزَهُ عربيًّا، ومع ذلكَ اختارَ قولاً آخرَ غيرَ قولِه.

ويشعرُ هذا النَّصُّ وغيرُه باعتدادِ بعضِ اللُّغويِّينَ بعلمِهم، وعدمِ حرصِهم على ما يُؤثَرُ عن مفسِّري الصَّحابةِ والتَّابعين، حتى إنهم يردُّون قولاً وارداً عنهم ولا يَعْتَدُّونَ به، ومنْ ذلكَ ما وردَ في تفسيرِ قولِه تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسْ الَّذِينَ آمَنُوا} [الرعد: ٢١] حيث وردَ عنْ بعضِ السَّلفِ أنَّ معنى ييأس: يعلم (٢)، وقال الكسائي (ت:١٨٣) معلقاً على هذا التفسيرِ: «لا أعرفُ هذه اللغةَ، ولا سمعتُ مَنْ يقولُ: يَئِسْتُ: عَلِمْتُ، ولكنَّه عندي مِنَ اليأسِ بعينه، والمعنى: إنَّ الكفارَ لمَّا سألوا تسييرَ الجبال بالقرآنِ، وتقطيعَ الأرضِ، وتكليمَ


(١) معاني القرآن، للفراء (١:٢٥).
(٢) جاء هذا التفسيرُ في تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (١٦:٤٥٤ - ٤٥٥) عن ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، وابن زيد، ثم علق بعد هذه النقول، فقال: «والصواب من القول في ذلك ما قاله أهل التأويل: إن تأويل ذلك: أفلم يتبين ويعلم؛ لإجماع أهل التأويل على ذلك، والأبيات التي أنشدناها فيه» (١٦:٤٥٥).

<<  <   >  >>