للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تَرَى أنه قال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٩٤]، فالعدوانُ مِنَ المشركينَ في اللَّفظِ ظُلْمٌ في المعنى، والعدوانُ الذي أباحَهُ اللهُ وأمرَ بهِ المسلمينَ إنما هو قصاصٌ. فلا يكونُ القصاصُ ظلماً، وإنْ كانَ لفظُه واحداً.

ومثلُه قولُ اللهِ تباركَ وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: ٤٠]، وليستْ منَ اللهِ مثلُ معناها منَ المسيءِ؛ لأنها جزاءٌ» (١).

وهذا يعني أنَّ ما يصدر من المسلمين إنما هو مقابلٌ وجزاءٌ لما صدر من الكفار، وإنما سمِّيَ باسمه على سبيل المجازاة، فاتَّفق اللفظ واختلف المعنى المراد به في كل موضع، وهذا ما يُسمَّى في علم البلاغة «باب المشاكلة».

قال الطبري (ت:٣١٠): «فإن قال قائل: وهل يجوز الاعتداء على الظالم فيقال: {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}؟

قيل: إن المعنى في ذلك غيرَ الوجهِ الذي إليه ذهبت. وإنما ذلك على وجه المجازاةِ، لِمَا كان من المشركين من الاعتداءِ. يقولُ: افعلوا بهم مثلَ الذي فعلوا بكم، كما قال: إن تعاطيتَ مني ظلماً تعاطيتُه منك. والثاني ليس بظلمٍ؛ كما قالَ عمرُو بنُ شأسٍ الأسديِّ (٢).

جَزَينَا ذَوِي العُدْوَانِ بِالامْسِ قَرْضَهُمُ ... قِصَاصاً، سَوَاءً حَذْوَك النَّعْلَ بِالنَّعْلِ (٣)


(١) معاني القرآن (١:١١٦ - ١١٧)، وينظر: تفسير الطبري، ط: شاكر (١:٣٠٢ - ٣٠٣ت)، (٣:٥٧٣)، وينظر أمثلة أخرى عند ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن (ص:٢٧٧ - ٢٧٨)، والصاحبي في فقه اللغة (ص:٣٨٤ - ٣٨٥).
(٢) عمرو بن شأسٍ الأسدي، شاعر مخضرم، يكنى أبا عرار، أسلم في صدر الإسلام، وشهد القادسية، كانت أمُّه سوداء، وكانت زوجه تعيره بذلك، حتى طلَّقها. ينظر: معجم الشعراء (ص:١٨٥)، ومعجم الشعراء المخضرمين والأمويين (٣٢٨).
والبيت ليس في ديوانه، بتحقيق يحيى الجبوري، وقد قال الأستاذ المحقق: محمود شاكر: «لم أجد البيت».
(٣) تفسير الطبري، شاكر (٣:٥٧٣). وينظر أصل هذا الكلام عند الأخفش في معانيه، تحقيق: هدى قراعة (١:١٧٣).

<<  <   >  >>