غلبوني قد فعلوها وقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، وأنكروا منتنا، والله ما صرنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك. والله لقد ظننت أني سأموت قبل أن أسمع هاتفا يهتف بما هتف به جهجاه وأنا حاضر لا يكون لذلك مني غير، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضر من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم! أحللتموهم بلادكم، ونزلوا منازلكم، وآسيتموهم في أموالكم حتى استغنوا، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم، ثم لم ترضوا ما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا فقتلتم دونهم فأيتمتكم أولادكم وقللتم وكثروا.
وكان زيد بن أرقم حاضرا - وهو غلام لم يبلغ أو قد بلغ - فحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك وعنده نفر من المهاجرين والأنصار، فتغير وجهه ثم قال: يا غلام، لعلك غضبت عليه؟ قال: لا والله لقد سمعت منه. قال: لعله أخطأ سمعك: قال: لا يا نبي الله. قال: فلعله شبه عليك؟ قال: لا والله لقد سمعت منه يا رسول الله. وشاع في المعسكر ما قال ابن أبي، حتى ما كان للناس حديث إلا هو. وأنب جماعة من الأنصار زيد بن أرقم فقال - في جملة كلام -: والله إني أرجو أن ينزل الله على نبيه حتى تعلموا أني كاذب أم غيري. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر به عباد بن بشر فليأتك برأسه. فكره ذلك وقال: لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وبلغ الخبر ابن أبي، فحلف بالله ما قال من ذلك شيئا؟ ثم مشي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحلف بالله ما قال. وأسرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك السير، ورحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ...
ويقال: لم يشعر أهل العسكر إلا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد طلع على راحلته - وكانوا في حر شديد، وكان لا يروح حتى يبرد إلا أنه لما جاءه ابن أبي رحل في تلك الساعة. فكان أول من لقيه سعد بن عبادة رضي الله عنه - فقال: خرجت يا رسول الله في ساعة ما كنت تروح فيها! قال: أو لم يبلغك ما قال صاحبكم ابن أبي، زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل؟