للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإنه العزيز وأنت الذليل. فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن له فخلى سبيله (١). ومثل هذا التصرت لا يجدي إلا من عبد الله من جهة، ولا يقدره إلا عبد الله من جهة أخرى فهو لا يجدي إلا منه لأن كل الخزرج بل الأنصار تعرف بر عبد الله بأبيه. فلو أقدم أي واحد من المسلمين على هذا الموقف لكان خوفه من سيف عبد الله الابن قائما في كل لحظة ولن يرضى ذل أبيه، وقد تقع فتنة أعظم تحول دون هذا الاعتراف بالذل من رأس النفاق، ولا يقدره إلا عبد الله من جهة أخرى، لأنه الوحيد الذي لا يخشى سطوة أحد من المنافقين أتباع أبيه، إنهم حين يرون الولد يضع السيف على عنق أبيه، لن يتجرأ أحد على النيل من الولد، لأنه هو حامي ذمار أبيه، ولن يكون أحد أغير وأثأر للأب من ابنه. لقد كان هذا الموقف من الواقف الخالدة في التاريخ، والذي أحرق كيد المنافقين كله حين رأوا عبد الله بن عبد الله بن أبي يذل أباه، بل يمنعه من دخول المدينة حتى يأذن له رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

التصرف الثاني: حين قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كنت تريد أن تقتل أبي فيما بلغك عنه فمرني به فوالله لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، والله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر غيري بقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأدخل النار، وعفوك أفضل ومنك أعظم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أردت قتله وما أمرت به، ولنحسن صحبته ما كان بين أظهرنا. فقال: يا رسول الله إن أبي كانت هذه البحيرة قد اتسقوا عليه ليتوجوه. فجاء الله بك فوضعه ورفعنا بك، ومعه قوم يطيفون به يذكرونه أمورا قد غلبه الله عليها.

وإذا حق لنا أن نعتبر بعض الحوادث منعطفات في تاريخ النفاق، فلعمري إن هذه الحادثة أولى منها جميعا بذلك، فعبد الله المؤمن على استعداد أن يقطع رأس أبيه عن جسده بحركة من شفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إيماءة -


(١) الرحيق المختوم للمباركفوري نقلا عن ابن هشام ومختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب.

<<  <  ج: ص:  >  >>