ورسول الله لا يقتل إيماء - وبذلك يغدو عبد الله زعيم النفاق كأمس الدابر. وحين نرى مثل هذا القول لا نشك أصلا أنه إنما قال لينفذ، وليس وقوفه دون دخول أبيه المدينة حتى يقر بأنه هو الذليل، وأن محمدا هو العزيز، وحتى يأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدخولها، ليس هذا الموقف إلا دليلا على ذلك.
لكن عظمة هذه النفس البشرية، نفس عبد الله الابن لتبدو أعظم وهي تتحدث عن نقاط ضعفها، ونقاط نقصها، إنه ليعلن أن الحمية الجاهلية قد تلعب برأسه، لو قتل أباه أحد غيره. وهو يعرف عتو هذه الجاهلية، وقوتها الكامنة في أعصابه، وفي حالة الحمية هذه، قد يفقد توازنه، ويفقد رشده، ويفقد دينه، فيقدم على قتل مسلم بكافر. فيؤدي ذلك به إلى النار.
فليس المسلم إذن سموا كله، وليس تساميا كله. بل من نجد عنده قمة السمو قد نجده في مكان آخر في زلة ضخمة قد تقوده إلى الضلالة والكفر. ومن الخطورة بمكان ونحن نتناول أحداث السيرة أن يكون التركيز دائما على نقاط التسامي، فأن تعرض هذه الحادثة ليؤخذ قسمها الأول في استعداده لقتل أبيه فقط يجعل بين هذا الصحابي العظيم وبيننا هوة كبيرة سحيقة لن نتمكن تجاوزها فنيأس ونحكم على حركتنا بالفشل. أما عرض الموقف كله من الشخص نفسه فهو دليل من جانب آخر على طبيعة هذه النفس البشرية الواحدة القادرة على الارتفاع إلى الأفق، والقادرة على الهبوط إلى الحضيض. القادرة على التطبيق الحي لأوامر الله عز وجل، ولو أدى ذلك لقتل ألصق الناس بها، والمستعدة للولوغ في الوحل ونتن الجاهلية فتقتل مسلما بكافر ثأرا وحمية وتدخل النار، وجانب العظمة لدى عبد الله رضي الله عنه هو أنه لم يجد حرجا في عرض خشيته من ذلك الإنحدار أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويدع الأمر بعد ذلك لقائده يوجهه لما يشاء. وهو درس لكل جندي يكلف بمهمة، أو يرى حدثا معينا يخشى منه الفتنة أن يعرضه لقيادته حتى تكون على بينة من طبيعة هذا الجندي. فقد تغير الأمر نتيجة التعرف على هذا العرض.
وأخيرا يضعنا هذا الموقف لعبد الله - رضي الله عنه - على جانب من الوضع النفسي له. فكل خشيته قائمة من دخول النار لو زل وعصى واستجاب لثأره، وليس خوفه على قتل أبيه أو خسارة سمعته أو لوم عشيرته.