للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شيء أقوى للحركة الإسلامية من أن تتعامل مع حلفائها أو أعدائها ببلاهة ظاهرية، بحيث تعرف مخططاتهم وتتظاهر بجهلها لهذه المخططات. لأن هذا التعامل هو الذي يكشف المخبوء من النوايا، والمستور من الشر. ولا شيء أكثر ضررا على الحركة الإسلامية من الاندفاعات العاطفية لمن يتحسسون أخبار أعدائهم. فلا بد أن يكون من يكلف بمثل هذا الدور على مستوى من الهدوء وحضور البديهة واليقظة، ما يطمس طبيعة مهمته ويبعد الشك عن دوره الذي يقوم به.

ولقد علمنا قائدنا عليه الصلاة والسلام سرية التخطيط وسرعة المبادهة من خلال هذا التظاهر بقضاء الحاجة. وكيف مكث اليهود ينتظرون عودته لقتله، تماما كما رأينا ليلة الهجرة. وقد أناب عليا رضي الله عنه في النوم مكانه ليجعل المشركين هانئين ينتظرون استيقاظه لقتله. أما نقض العهد دون دليل قاطع، فليس من حق الحركة الإسلامية، وكانت المنابذة في خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحيي على لسان محمد بن مسلمة: (أن اخرجوا من بلدي فإنكم قد نقضتم العهد بما هممتم به من الغدر). فالهم بالغدر ثابت، ولم يناقش اليهود به لأنهم يعلمون صدق نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعترضوا على الأصل، بل كان ردهم سفيها في الاستعداد للحرب ورفض الجلاء: (إنا لا نخرج فليصنع ما بدا له).

وليس من شيمة المقاتل المسلم أن يوعد فلا يفي، أو يهدد فلا ينفذ، فيصبح كلامه لا وزن له، فما وصل رد اليهود في الصبح حتى كان رسول الله محاصرهم عصرا، وصلى العصر في فضاء بني النضير وتحرك - الطابور الخامس - ليعلن ولاءه مرة ثانية لليهود، ويؤكد لهم سرا على لسان عبد الله بن ابي: (أن أقيموا ولا تخرجوا فإن معي من قومي وغيرهم من العرب ألفين يدخلون معكم فيموتون من آخرهم دونكم). ولم يأتهم ابن أبي، واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم بسلاح ولا رجال وهذا درس للمؤمنين على مر العصور، فالصف المسلم القوي يحرق النفاق وخططه، ولا يجرؤ دعاة الشر والفتنة أن يتحركوا أمام وحدة الصف المسلم وقوته، إنما يتحركون حين

<<  <  ج: ص:  >  >>