قتال مباشر وحرب دامية بل اقتصروا على المراماة والمناضلة ... وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب في جحورها تريد إيصال السم داخل أجسادهم. انطلق كبير مجرمي بني النضير إلى ديار بني قريظة فأتى كعب بن أسد القرظي - سيد بني قريظة، وصاحب عقدهم وعهدهم ... فلم يزل حيي بكعب نقيلة في الذروة والغارب ... حتى نقض كعب بن أسد عهده وبرىء مما كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين .. وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف. بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما يقول الله تعالى:{وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا} هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال: كان محمد يعدنا أن تأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط .. أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقنع بثوبه حين أتاه غدر بني قريظة فاضطجع ومكث طويلا حتى اشتد على الناس البلاء، ثم غلبته روح الأمل (١) فنهض يقول: الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره .. ثم أخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن ... وكانت غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين، وأقام المشركون محاصرين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين شهرا أو نحو شهر .. إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر، بل كانت معركة أعصاب، لم يجر فيها قتال مرير إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام تمخضت عن تخاذل المشركين، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينة لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوى مما أتت به في الأحزاب، ولذلك قال رسول
(١) ليست القضية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قضية أمل أو يأس. بل هي قضية ثقة بالله لا تحد. أو تخطيط لمواجهة حاسمة، أو تلق لوحي الله، وكنا نود من علامتنا المباركفوري أن لا يرى هذا التعليل لهذا الموقف.