يشكلون استعصاء مسلحا، أو يشكلون فرارا من الجيش والمعركة أو يتموا هذه الوجبة وينتهوا بعد ذلك، أو ينهشوا بنهشة واحدة تقيم أودهم لم يفعلوا ذلك كله، إنما كفؤوا القدور باللحم، واسجابوا لأمر الله ورسوله. وهو درس حي ولا شك في الالتزام والانضباط بالأوامر بالعسر واليسر والمنشط والمكره. وأن يكون الجندي المسلم خارجا من سلطان بطنه، وهو على أشد ما يكون من الجوع، وهو مكلف بخوض معركة، هو مستوى رفيع جدا، حين نرقى إليه نرقى معه إلى مستوى نصر الله.
وكان بالإمكان أن ينهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الحمر الأهلية قبل ذبحها، أو بعد ذبحها، وقبل العناء بطهيها وجمع الحطب ونفخ النار تحتها، لكن حتى تكون التجربة في أعمق أبعادها شاءت إرادة الله تعالى أن يكون النهي والقدور تغلي بلحوم الحمر، حتى يكشف الالتزام في أصعب أحواله، والذي يلتزم في هذا الظرف قادر على الالتزام بما هو أدنى منه.
وشيء آخر لا يقل صعوبة ومرارة عنه. هذا الشيء هو حفظ الفرج عن الحرام. فلقد مضى المسلمون لخيبر، والمتعة حلال لهم، ولم يشهد المسلمون بعدا عن نسائهم كما شهدوه في خيبر. لقد استمرت المعركة شهرين قاسيين. فكان لا بد من تلبية داعي الجنس الحلال من خلال الاستمتاع المؤقت بالنساء. وكان النهي عن نكاح المتعة كذلك في هذه المناسبة. ولم يكن النهي وهم بجوار نسائهم في المدينة، ولم يكن النهي مجرد وصولهم إلى خيبر لقد كان النهي في أصعب مظانه، في قلب المعركة، وبعد الغياب الطويل عن الزوجات. وحيث الإمكانات المتاحة للمتعة. ولم يكن النهي منصبا فقط عن نكاح المتعة في علاج حفظ الفرج والانضباط فيه. بل كان من أمور عدة يحدثنا عنها رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وقد قام خطيبا في المسلمين بعد أن افتتح قرية من قرى المغرب فقال:
(يا أيها الناس إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله فينا يوم خيبر قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره - يعني إتيان الحبالى من السبايا - ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها. ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم، ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه)(١).
إنها أمور تمس ثلاث شهوات هي من أعمق ما تحمله النفس البشرية من شهوات.