للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتكون لهم القيادة والسيادة من جديد؟

٨ - وإذا كان أمر التعامل مع اليهود وهم أذلة فإن هذا لا يعني في المفهوم الإسلامي بخسهم حقهم ولوكانوا مستضعفين أو مضطرين للعمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه وتذكر كتب السيرة عن ذلك الخرص الوحيد الذي قام به عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لعام واحد وهو يوزع الثمر مناصفة بين اليهود والمسلمين قالوا له: ما نراك عدلت. فيجيب رضي الله عنه: يا إخوة القردة والخنازير، والله ما أحد على ظهر الأرض أبغض إلي منكم وما يدفعني بغضي لكم أن أنقصكم تمرة واحدة. ووالله ما أحد على ظهر الأرض أحب الي من محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما يدفعني حبي له أن أزيده تمرة واحدة. إن شئتم هذه أو شئتم هذه، ويشير رضي الله عنه إلى الحصتين أمامه. أو كما روى ابن إسحاق: (قالوا له: تعديت علينا، قال: إن شئتم فلكم، أو شئتم فلنا، فتقول يهود: بهذا قامت السماوات والأرض) (١).

وإذن فمفهرم دولة الإسلام وحكم الإسلام الذي نرقبه ونسعى له، ونقاتل من أجله هو في تحقيق هذا العدل بين العدو والصديق والقريب والخصم وهو أكبر ميزان على تحقيق شريعة الله في الأرض أن يأمن العدو قبل الصديق، والخصم قبل الأخ، ولا يطمع شريف في ظلم، ولا ييأس ضعيف من عدل وأن يطمئن المسالم الآمن على ماله وعرضه وعقيدته وأرضه واليهود الذين عاشوا في ظل هذا الإسلام العظيم، نعموا بهذا الأمن، وطردتهم دول الأرض وآوتهم دولة الخلافة الإسلامية فكان جزاؤها أن هدموا هذه الخلافة إنهم يعلمون أن عدل محمد - صلى الله عليه وسلم - لن يستطيعوه هم على أنفسهم، ومن أجل ذلك قالوا: بهذا العدل قامت السموات والأرض، وأن يتعامل عبد الله بن رواحة وهو المبغض الألد لهم بنفس الصيغة التي يتعامل فيها مع حبيبه عليه الصلاة والسلام.

إنه ما لم تقتنع قاعدة الحركة الإسلامية بأن قيادتها على الجادة، وأنها تحقق العدل في صفوفها وتؤثر الحق على العاطفة في تعاملها، فلن تخطو خطوة واحدة خارج صفها في تحقيق الهدف الذي ترنو إليه وعندما يطمئن الصف المسلم إلى أن قيادته رائدها العدل دائما وأنه لن يضيع حق لفرد من أفراده فيه. فحينئذ تستطيع أن تكون داعية لهذا المعنى في صفوف الخصوم، ولا بد أن يتربى الصف كذلك على قبول هذا العدل والرصوخ له، ولو كان على حسابه ومن مصلحته.

فالقضية ذات طرفين متوازنين الطرف الأول: طرف القيادة الصارمة العادلة التي لا تأخذها في الله لومة لائم، وتكون قوامة بالقسط شاهدة لله ولو على نفسها أو الوالدين والأقربين. وطرف القاعدة التي لا تعتبر الإسلام مغنما ومكسبا، وحقا متسلطا على رقاب العباد بل تعطي من ذاتها ونفسها ما يعين القيادة على تطبيق هذه العدالة وأن تخضع للحق ولا تستجيب للنزوة الطارئة


(١) السيرة النبوية لابن هشام ج ٤: ٣٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>