منه. وكانت تلك الهزة الوجدانية التي لامست عمرو فهزته من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه. ولم تنته إلا ببيعة عمرو للنجاشي على الإسلام في ذات اللحظة التي كان يود أن يضرب عنق عمرو بن أمية الضمري لو سلمه النجاشي إليه فلقد كانت الهزة من العمق والضخامة بحيث كسرت أثقال الجاهلية وأغلالها وفتحت عينيه على الإسلام. وكانت الضربة العنيفة هي التي أعادته إلى رشده، وقرر أن يرحل من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام.
بينما كانت الهزة الضخمة التي زلزلت كيان خالد بن الوليد رضي الله عنه تلك الرسالة الصغيرة المعدودة الكلمات. وقد غيرت كل مخططات حياته. فلقد غادر خالد مكة والغيظ والحقد يأكل قلبه أن يدخل محمد مكة. بعد سبع سنوات من المقاومة دون أن يقف في وجهه أحد بل بإقرار قريش واعترافها ولا شيء على القائد العسكري أشد مرارة من الهزيمة. وأن يرى بأم عينيه خصمه مظفرا منتصرا، ومن أجل ذلك غادر مكة عند دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها، بل فكر أكثر من ذلك بأن يفعل ما فعله عمرو وصحبه. أن يمضي إلى النجاشي أو كسرى أو قيصر. غير أنه وجد الذل واحدا وليس له من الصداقة عند النجاشي ما لصاحبه عمرو وسيكون نكرة في أي مكان يمضي إليه حتى ولولم يكن نكرة مجهولة. فأي معنى أن يضع إمكاناته وعبقريته لينصر فرسا على روم أو روما على فرس. ومن أجل هذا ضاقت الدنيا في عينيه، وهو يعرف في أعماقه أن موقعه الحقيقي في مكة.
وجاءت هذه الرسالة. لتعيد تركيبه من جديد. فلقد قدم مكة وخف الضغط على أعصابه أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد غادر مكة. ولم يكن غصة في حلقة أن يراه وهو يطوف حرول الكعبة ويستلم الركن. ويرى من حوله أتباعه من كل مكان يسرحون ويمرحون في بلده. وكانت رسالة أخيه عند والدته. وفض الرسالة، ولم يأبه في بادىء الأمر إلى دعوة أخيه له للإسلام فهو لا يقيم هذا الوزن لرأي أخيه وطالما ساهم في حبسه ومنعه عن المسير إلى المدينة لكن الذي شده، وشد نظره أن يكون محمد رسول الله قد مال عنه: وكاد يلتهم الكلمة التهاما ليرى طبيعة السؤال ويرى دوافعه رأي محمد فيه، وعلى الغالب أنه لم يخطر على باله دافعا للسؤال عنه من محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا الرغبة في إذلاله وإشعاره بالهزيمة والاستخفاف بهؤلاء المعاندين، لكن المفاجأة الضخمة التي هزت أعماقه هي هذه الكلمات العادية في الصحيفة الهائلة في التأثير والمعنى. (فقلت: يأت الله به. قال: مثله جهل الإسلام؟ ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين لكان خيرا له ولقدمناه على غيره).
فإذن ليس هو أمام قائد متعجرف أذل كبرياءه أو حتى غاضب ثأر لحروب ضخمة سابقة أو حتى عاتب لائم على مواقف معاندة مكابرة، ليس أمام هذا كله. إنه أمام إنسان لا مثيل له في البشر. إنه أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعاد القراءة الثانية وما يكاد يصدق عقله، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين لكان خيرا له ولقد مناه على غيره، إذن فقد وجد ضالته، ورأى موقعه، تحت