وما أروع الثقة حين تسود في الصف المسلم، فلم يتطرق الشك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا إلى أصحابه الأدنين والأبعدين، ولا إلى بيوت أزواجه الأخرى فيغمزن من قناة ضرتهن أم حبيبة. وحتى طوي فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي سفيان لم يكن بإيحاء نبوي بمقدار ما كان فطرة إسلامية خالصة.
وهنا نذكر الشباب المسلم بالفرق بين الموادة، وبين المعاملة الدبلوماسية اللازمة.
فلم ينهش المسلمون عرض أم حبيبة رضي الله عنها وهي تستقبل أباها وترحب به. ولم تتهم في دينها أو ممالأتها للكفار، وأبو سفيان يمثل في هذه المرحلة مسؤولية غدر قريش ونقضها للعهد. وهي رضي الله عنها لم تجد حرجا في مثل هذا الاسقبال وهذه الضيافة فهي مطمئنة إلى ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمسلمين بها، لكنها من الطرف الآخر، وصلت بالتميز والمفاصلة مع أبيها أكثر من المطلوب منها حين منعت أباها عن الجلوس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شك أن عصبة تصل الثقة في صفوفها أن تخلي بين قائد العدو وابنته في جلسة خاصة. دون أن يتطرق الشك بهذه المرأة لهي عصبة مؤهلة أن تحكم الأرض ويدين لها الخافقان.
ثم كانت المواجهة الثانية بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي سفيان:
يقول أبو سفيان:(يا محمد إني كنت غائبا في صلح الحديبية، فاشدد العهد وزدنا في المدة.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ولذلك قدمت يا أبا سفيان؟ قال: نعم! قال: هل كان قبلكم حدث؟ قال: معاذ الله! قال: فنحن على مدتنا وصلحنا يوم الحديبية) (١).
لقد كان أبو سفيان القائد العام لجيش المشركين يريد أن يضع كل عبقريته في عقد جديد يلغي ما كان من إخلاله قبله. وتذرع بغيابه عن صلح الحديبية. ولكن أنى له أن تسري أحابيله بين يدي رسول رب العالمين فقال له عليه الصلاة والسلام: ولذلك قدمت يا أبا سفيان؟ قال: نعم! وكان بإمكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينفعل ويغضب، ويكشف غدر قريش. لكن العلاقات السياسية لا تحل عن طريق الانفعالات، ثم استجره أكثر لعله يعترف بغدر قريش. فسأله: هل كان قبلكم حدث؟ قال: معاذ الله.
وأبو سفيان مضطر لنفي الأمر رغم معرفته به ورغم توقعه أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - قد عرف به، لأن الاعتراف فيه قد يودي بضرب عنقه، أو علمه على الأقل بهذا الغدر، ومع هذا النفي فكان الجواب الحاسم: فنحن على مدتنا وعهدنا وصلحا يوم الحديبية.
يقول الشاعر:
ليس الغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي
وأن تكون هذه الصورة فعلا حقيقية، وهي نجاح أبي سفيان في مهمته، أو إيهام النبي - صلى الله عليه وسلم -