بالوفاء التام. فهو عبقرية من أبي سفيان ولا شك لكن هذه العبقرية تبدو سذاجة أمام عبقرية النبي - صلى الله عليه وسلم - في إيهام أبي سفيان بأنه اقتنع بجوابه. وأن العهد لا يزال على ما هو عليه. فلقد سد المنافذ كلها على أبي سفيان. إذ ما معنى تجديد العقد وزيادة المدة، طالما أن قريشا على عهدها ومدتها.
ولتمام نجاح هذه المهمة، فلقد كانت الأسرار في الصف المسلم من المناعة، ومن الكتمان بحيث لا يمكن أن تبرز ولو من صفحات الوجه أن المسلمين على علم بغدر قريش. وهكذا برزت البراعة السياسية بأعلى صورها حين سدت على العدو كل منافذه وسبله.
لقد كان بإمكان أبي سفيان أن ينجح بشيء من مهمته. لو أن لحظة انفعال أو غضب سيطرت على أحد الجنود الذين التقى بهم أبو سفيان وكان يمكن أن ينجح في شيء من مهمته لو أن سرا قد أفشي من أسرار المسلمين من خلال لقاءات أبي سفيان في المدينة.
وحين يرتفع الصف المسلم إلى هذا المستوى. فلن يكون العدو قادرا على تحقيق النزر اليسير من مهمته. بله الأمر الكبير. فليس الداهية هو الذي يخدع الآخرين فقط، بل الأدهى منه هو الذي يوحي له بجواز خدعته عليه.
لقد كان بإمكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعتقل أبا سفيان أو يهدد به، أو يهدده ولكن لم يكن تخطيط النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحل الأمر بالطرق السلمية أو بحلول محدودة لقد رأى أن الأوان قد آن لفتح مكة. بعد أن أصبح حرا من العقود والعهود التي نقضها العدو. ومن أجل ذلك حرص على إخفاء أية صورة من صور التحدي والإثارة أمام أبي سفيان ثم كانت خطوات أبي سفيان المتلاحقة في اللقاء مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، بين من يراه أمس الناس رحما به، ومن يراه أعدى العدو ولئن اختلفت لهجة الاستقبال من عظيم إلى آخر لكنها كانت جميعا ذات مضمون واحد هي أنه لا يجير أحد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يقبل أحد أن يكون وسيطا في قضية رفضها رسول الله عليه الصلاة والسلام. ولم يتورع أبو سفيان في الوساطة أن يطلب من فاطمة بنت محمد، والحسن بن فاطمة بنت محمد رضي الله عنهم أن يكونا وسطاء في زيادة المدة وتجديد العهد. وفاطمة أحب خلق الله تعالى إلى أبيها وكان الجواب واحدا لا يتغير. فلن يشفع أحد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر. بعد أن صدر الجواب الحاسم. فنحن على مدتنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل.
وهو درس كذلك لقواعد الحركة الإسلامية وقياداتها في أن لا تحرج أمير الجماعة في أمر أعلنه والتزم به خاصة حين يكون هذا الأمر مع خصوم الجماعة أو أعدائها أو حلفائها على السواء أو أن يبرز خلاف في الرأي أمام هذا الحليف أو ذاك العدو مهما كانت الأسباب الموجبة لذلك فالأصل أن يصدر الجميع عن رأي واحد خلف قيادتهم وبدون تردد.