للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هي التي شفعت لحاطب رضي الله عنه، وما أعتقد أن أي عمل في الإسلام اليوم يعدل حضور بدر إذ أن ذلك وحي من الله تعالى غير أن المعنى العام الذي يفقهه الدعاة، هو أن بلاء الرجل وجهاده قد يشفعان له في تخفيف العقوبة لا بإلغائها. وهو ضلال عن سواء السبيل كما ذكره القرآن الكريم.

وتأتي الصورة الأخيرة في الاستنفار العام للعرب جميعا من المدن والحضر الذين دخلوا في دين الله وكانت صيغة الاستنفار: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة .. وبعث رسلا في كل ناحية حتى قدموا فقدمت أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع المدينة وأتت بنو سليم بقديد، وعسكر ببئر أبي عنبة، وعقد الألوية والرايات).

ومع كل هذا التوسع فقد حافظ المسلمون جميعا على سرية التحرك، وكان الدرس القاسي الذي نزل قرآنا يتلى بحق حاطب رضي الله عنه قد تعمم على الجيش كله. ولم يجرؤ أحد بعد وفي قلبه إيمان بالله ورسوله أن يخون هذه الخيانة، ونجحت سرية التحرك دون أن تصل الأخبار إلى مكة.

وما كان لمثل هذا التحرك الضخم أن ينجح لولا قوة هذا الصف وسلامته.

ولم تكن الخطيئة الكبيرة من حاطب لتغير من هذه النظرة. رغم أن المهاجرين والأنصار لا يبلغون نصف الجيش (فقد كان المهاجرون سبعمائة ومعهم ثلاثمائة فرس، وكانت الأنصار أربعة آلاف ومعهم خمسمائة فرس، وكانت مزينة ألفا فيها مائة فرس ومائة درع، وكانت أسلم أربعمائة فيها ثلاثون فرسا، وكانت جهينة ثمانمائة معها خمسون فرسا، وكانت بنو كعب بن عمرو خمسمائة).

وبمقارنة هذا العدد الهائل والاستجابة للنفير العام مع التباطؤ والتلكؤ يوم الحديدبية، نلاحظ الفرق بين تحرك الناس قبل التمكن وتحركهم بعده. ولقد قرع القرآن الكريم في سورة الفتح أولئك الأعراب الذين تباطؤوا وتخاذلوا عن هذا النفير حتى حرموا من حضور خيبر بعدها، هم هم أنفسهم اليوم ينضمون بالآلاف إلى الجيش الإسلامي، وهذا المعنى يرتبط بالفتح المبين يوم الحديبية. فثبات النفر القليل أيام المحنة والأيام السود هو الدرس الحي الذي يقود جحافل الناس بعد المحنة. وثبات النفر القليل هو الذي هيأ الجو لمثل هذه المعاهدة، وهذا لجو هو الذي فتح القلوب للإسلام، والجو المفتوح البعيد عن الخوف، الخالي من المخاطر، هو الذي هيأ المجال للتحرك الجاد من القاعدة الصلبة إلى نفوس الناس المتعطشة لهذا الدين، وما كان لمثل هذا التجمع أن يعطي فعاليته لولا ثبات الرواد الأوائل على الطريق، وقدرتهم على ضم هذه الأعداد الهائلة إلى المعركة.

<<  <  ج: ص:  >  >>