للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومواجهة لكننا كذلك أمام رسول رب العالمين، لا يريد أن يشقى أحد على يديه. فهو الرحمة المهداة. ولكم كان حريصا على هداية قومه حتى ليعاتبه ربه عز وجل بذلك {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} (١) ٠ ولم تغير حرب عشرين عاما من نفسه الطاهرة الشريفة بأن يكون الانتقام رائده. بل بقي النور الذي يغمر الظلام مهما اشتد. ويمثل هذه النفسية العليا في الأرض رؤيا أبي بكر وتفسير النبي عليه الصلاة والسلام لها: (فرأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، في الليلة التي أصبح فيها بالجحفة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دنوا من مكة خرجت عليهم كلبة تهر، فلما دنوا منها استلقت على ظهرها. فإذا أطباؤها (٢) تشخب لبنا، فذكرها أبو بكر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذهب كلبهم (٣)، وأقبل درهم. هم سائلوكم بأرحامكم! وأنتم لاقون بعضهم فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه) (٤).

لقد أطلقنا على هذه المرحلة، مرحلة الجهاد السياسي، ولكنه من أعلى مواقع القوة العسكرية.

فليس هذا الاتجاه عن عجز أو وهن. بل لأن القوة الضاربة هي التي تلجم اندفاعات العدو وتكبح جماحه وتتيح الفرصة لصوت الحق أن يظهر فحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على سلامة مكة من حرب ضروس هو الذي دفعه لأن يدعو (اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها) وحرص العباس على سلامة قريش هو من مشكاة النبوة يريدها أن يسقط في يدها فتستسلم دون حرب وتستأمن لنفسها، فلا تجد حرجا أو غضاضة بعدها في الإسلام، أما لو وقعت المقتلة العظيمة في كل بيت من قريش وفي بطحاء مكة، فستدخل هذه القلوب في الإسلام ذليلة.

ويتضح حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا المعنى كذلك من موقفه من سيد الخزرج سعد بن عبادة فقد (كانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا، غلما حاذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان قال: يا رسول الله ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: وما قال؟ فقال: كذا وكذا. فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ما نأمن أن يكون له في قريش صولة: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل اليوم يوم المرحمة، اليوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله قريشا، ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد، وقيل بل دفعه إلى الزبير) (٥).


(١) الكهف: الآية ٦.
(٢) أطباؤها: جمع طبي، وهي حلمات الضرع التي فيها اللبن.
(٣) كلبهم: سعار يأخذ الكلاب فتنبح وتعض.
(٤) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٣٦٧، ٣٦٨.
(٥) الرحيق المختوم ص ٤٥٢. وقد وردت عند ابن إسحاق وابن عساكر وموسى بن عقبة بروايات متقاربة.

<<  <  ج: ص:  >  >>