فعز قريش وتعظيم الكعبة والحرص على حقن الدماء هو الخط العام الذي يتحرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلاله لكنه مع ذلك لا يريد أن يؤذي أكبر أنصاره سعد رضي الله عنه وهو الذي كان والخزرج كتائب الفداء الأولى في الإسلام فأخذ الراية وأعطاها لابنه قيس؛ وقيس في حلمه ورجاحة عقله ودهائده ما يجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطمئن إلى جانبه ألا يندفع في ثورته ونقمته على قريش بمقدار ما يندفع ضمن الخط النبوي المرسوم.
وكان ذلك اللقاء التاريخي بين قائد جيش العدو-أبي سفيان- الذي وصل شبيه الأسير بين يدي محمد - صلى الله عليه وسلم -. وتحققت نبوءة عتبة بن ربيعة ند أبي سفيان الذي قال له ذات يوم في بطحاء مكة:(لكأني بك يا أبا سفيان تساق إلى محمد كما يساق الجدي ليفعل بك ما يشاء).
وها هو بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا يحتمل الأمر أكثر من إشارة، أو حركة في العين ليطاح رأسه عن جسده. لكن سيد الدعاة - صلى الله عليه وسلم - لا ينسى أن إسلام أبي سفيان يعني تحولا تاما في مكة وفي بني أمية بالذات. وهم أعدى الأعداء. ورمى عليه الصلاة والسلام عداء عشرين عاما خلف ظهره ليقول لأبي سفيان:(أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله؟ فيجيبه: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك. والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد) إنه وهو الذي لا يزال على جاهليته يصعقه نبل محمد - صلى الله عليه وسلم - ويهزمه في أعمق أعماقه. فيفديه بأبيه وأمه وما يتمالك عن القول: ما أحلمك وأكرمك وأوصلك. ثم يأتي السؤال الثاني ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا.
وإنها لقمة الانتصار في موازين الرجال وفي معارك النفوس أن يبهت القائد العام للعدو بخلق خصمه الأول فلا يتمالك عن الثناء على حلمه وكرمه وصلته للرحم بل يفديه بأبيه وأمه. وأدرك العباس رضي الله عنه أن عدم إسلام أبي سفيان لن يضمن تجديد معركة وحرب وفي هذه الحالة فقتل أبي سفيان قبل أن يجيش الجيوش من جديد هو الذي تقتضيه طبيعة الخطة النبوية، ومن أجل ذلك قال العباس لأبي سفيان: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق فأسلم. ومع أن هذا الإسلام واضح أنه خوف من السيف. لكن ليس من طبيعة زعيم كأبي سفيان أن يرضى غدرة من خلال إسلامه أو يرضى تلطيخ تاريخه أنه جبن أمام رسول الله محمد. فتمضي سبة عليه بين العرب والعباس الخبير بنفس أبي سفيان طلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا من الفخر لابن حرب فقال عليه الصلاة والسلام: من دخل الكعبة فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.
فالميزة التي أخذها من هذا الفخر، إظهار لزعامته في قريش، وهذا حق مكتيب له لكن دون أن يبني عليها تعديل ذرة واحد من الخطة، وحين لا تتعارض الجزئية مع الكليات العامة فلا