الجيش كله فلجأ عليه الصلاة والسلام إلى الخط الثاني. خط الترغيب بالعوض عن هذه السبايا. وتمكن عليه الصلاة والسلام بهذا الخط أن يستوعب بقية الجيش حتى العجوز الشمطاء التي كانت من نصيب عيينة بن حصن وألح في الاحتفاظ بها. وترك لزعيم وفد هوازن أن يهز عيينة بن حصن بقوله له: خذها عنك، فوالله ما فوها ببارد ولا ثديها بناهد؛ ولا بطنها بوالد، ولا زوجها بواجد، ولا درها بماكد (١). فردها بست فرائض، وعلى النهج نفسه أمكن جلب قائد هوازن الذي استعصى في ثقيف فأرسل إليه يدعوه إلى الإسلام وسيعطيه أهله وماله ومائة من الإبل، وكان هذا العرض السخي كفيلا بأن يستجيب مالك للإسلام. وليست استجابة سلبية فقط بحيث يركن إلى ماله وإبله وأهله: بل استجابة فاعلة إيحابية ارتضى أن يغزو ثقيفا. الذين كان بحمايتهم وكانوا معه في المعركة ضد محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهكذا دخلت هوازن في الإسلام، وبالتركيز على قرابة الرحم والنسب كما قال أبو صرد: إنما في الحظائر عماتك وخالاتك فامنن عليهم، ومن خلال رابطة النسب نفسها استطاع عليه الصلاة والسلام أن يستثير النخوة العربية، والعزة القبلية، فيوظفها في خدمة الإسلام.
ألا ما أحوج الحركة الإسلامية اليوم إلى هذه المعاني، أن تخطط لتدخل الأمة كلها في حظيرة الإسلام، وحين تقارن بين طريقين نجد البون شاسعا جدا بينهما:
الطريق الأول: الذي ينطلق فقط من خلال حرفية النظام، وحرفية القرار، فيستعبده النظام والقرار ولو أدى إلى كسر النفوس، وذبح القلوب، وتغير الثقة وتخلخل الصف.
الطريق الثاني الذي ينطلق إلى جوار القرار، من دوافع النفس، وخلجات القلب، وطبيعة الفطرة البشرية، ونوازع النسب فتسخر هذه جميعا لخدمة الهدف الأبعد من القرار. وهو حفظ مال الأمة أو حفظ شبابها أو حفظ صفها.
ولقد رأينا الحركة الإسلامية في إحدى فصائلها. تتخذ قرارا ماليا ذات يوم تحجب به شيئا من الراتب عن الإخوة الذين شاركوا معها في جهادها وضحوا بأرواحهم ودمائهم لتدفعهم إلى العمل وكسب المعيشة .. فكان الدرس قاسيا للفريقين القيادة والقاعدة.
فقساوة الدرس للقيادة أنها كسرت نفوس إخوانها بهذا القرار. فانصرفوا عنها والألم يذبح قلوبهم وماذا تربح القيادة إذا خسرت ثقة قواعدها بها وهم عدتها في الحرب والجهاد والمواجهة وقساوة الدرس للقاعدة أنها اهتزت عند أول أزمة، فنقص شيء بسيط من المال. دفعهم إلى العنف والاحتجاج واتهام القيادة فكيف لو كان الأمر بالتخلي عن ثمار المعركة كلها، وأعز ما فيها من ثمار.