للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَنْ يُضَحِّيَ مِنْكُمْ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ شَيْئًا» وَالتَّعْلِيقُ بِالْإِرَادَةِ يُنَافِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً

يَوْمِ النَّحْرِ وَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ثُمَّ افْتَقَرَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ، فَلَوْ كَانَتْ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لَكَانَ دَوَامُهَا شَرْطًا كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ حَيْثُ تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ وَالْخَارِجِ وَاصْطِلَامِ الزَّرْعِ آفَةً لَا يُقَالُ أَدْنَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ إقَامَتِهَا تَمَلُّكُ قِيمَةِ مَا يَصْلُحُ لِلْأُضْحِيَّةِ وَلَمْ تَجِبْ إلَّا بِمِلْكِ النِّصَابِ.

فَدَلَّ أَنَّ وُجُوبَهَا بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّصَابِ لَا يُنَافِي وُجُوبَهَا بِالْمُمَكِّنَةِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَهَذَا لِأَنَّهَا وَظِيفَةٌ مَالِيَّةٌ نَظَرًا إلَى شَرْطِهَا وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْغِنَى كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ التَّمْلِيكُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرَبَ الْمَالِيَّةَ قَدْ تَحْصُلُ بِالْإِتْلَافِ كَالْإِعْتَاقِ وَالْمُضَحِّي إنْ تَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ فَقَدْ حَصَلَ النَّوْعَانِ: أَعْنِي التَّمْلِيكَ وَالْإِتْلَافَ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ حَصَلَ الْأَخِيرُ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُوسِرَ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فِي أَوَّلِ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ إلَخْ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: إنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ فَقِيرًا حِينَ اشْتَرَاهَا لَهَا وَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ الْأَيَّامُ فَكَذَا الْحُكْمُ. فَفِي دَلَالَةِ مَا ذَكَرَهُ عَلَى مَطْلُوبِهِ بَحْثٌ، إذْ لَيْسَ فِي الْفَقِيرِ قُدْرَةٌ لَا مُمَكِّنَةٌ وَلَا مُيَسِّرَةٌ، فَذَلِكَ لِلِاشْتِرَاءِ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ لَا لِلْقُدْرَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، إذْ لَا نِزَاعَ لِأَحَدٍ فِي أَنَّ عِلَّةَ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى الْمُوسِرِ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى النِّصَابِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ هُنَا فِي أَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي تَجِبُ بِهَا الْأُضْحِيَّةُ عَلَى الْمُوسِرِ هَلْ هِيَ الْقُدْرَةُ الْمُمَكِّنَةُ أَمْ الْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ، فَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْقُدْرَةُ الْمُمَكِّنَةُ بِمَسْأَلَةٍ ذُكِرَتْ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ، وَهِيَ أَنَّ الْمُوسِرَ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ فَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ثُمَّ افْتَقَرَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، وَلَا شَكَّ فِي اسْتِقَامَةِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، إذْ لَوْ كَانَ وُجُوبُهَا بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لَكَانَ دَوَامُهَا شَرْطًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَلَا يَضُرُّهُ اشْتِرَاكُ الْمُعْسِرِ مَعَ الْمُوسِرِ فِي حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ وُجُوبُ التَّصَدُّقِ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا، لِأَنَّ عِلَّةَ الْوُجُوبِ فِي الْمُعْسِرِ هِيَ الِاشْتِرَاءُ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ لَا الْقُدْرَةُ، وَعِلَّتُهُ فِي الْمُوسِرِ هِيَ الْقُدْرَةُ لَا الِاشْتِرَاءُ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَيْضًا، فَبَعْدَ أَنْ تَقَرَّرَ أَنَّ عِلَّتَهُ فِي الْمُوسِرِ هِيَ الْقُدْرَةُ لَا غَيْرُ.

تَكُونُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ دَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى تَعْيِينِ أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ هِيَ الْمُمَكِّنَةُ لَا الْمُيَسِّرَةُ، عَلَى أَنَّ اشْتِرَاكَ الْمُعْسِرِ مَعَ الْمُوسِرِ فِي حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مَمْنُوعٌ إذَا الْوَاجِبُ فِي صُورَةٍ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُعْسِرًا هُوَ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِهَا حَيَّةً لَا غَيْرُ، بِخِلَافِ إنْ كَانَ مُوسِرًا كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ مُفَصَّلًا. وَقَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ: ثُمَّ ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَتَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهَا لَيْسَ بِالْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ، وَإِلَّا لَمْ تَسْقُطْ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ شَاةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ اهـ. أَقُولُ: وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ فَوَاتُ أَدَاءِ الضَّحِيَّةِ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ لَا سُقُوطُهَا بِالْكُلِّيَّةِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ أَيْضًا، فَإِنَّ الْأَدَاءَ وَهُوَ تَسْلِيمُ عَيْنِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ يَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فِي الْوَاجِبَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ لِأَدَائِهَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.

وَأَمَّا الْقَضَاءُ وَهُوَ تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ فَلَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ بِمُضِيِّهِ شَرْطُ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ يَكُونُ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ كَالصَّلَاةِ لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ كَالْفِدْيَةِ لِلصَّوْمِ وَثَوَابِ النَّفَقَةِ لِلْحَجِّ، وَعَدُّوا الْأُضْحِيَّةَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي وَقَالُوا: إنَّ أَدَاءَهَا فِي وَقْتِهَا بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَقَضَاءَهَا بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهَا بِالتَّصَدُّقِ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا، فَقَوْلُ ذَلِكَ الْبَعْضِ ثُمَّ ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَتَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهَا لَيْسَ بِالْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَقَوْلُهُ وَإِلَّا لَمْ تَسْقُطْ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ شَاةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِسُقُوطِهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُ وَإِلَّا لَمْ تَسْقُطْ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِصِحَّةِ أَدَاءِ الْمُؤَقَّتَاتِ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهَا حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ شَاةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَإِنَّ التَّضْحِيَةَ إرَاقَةُ الدَّمِ، وَهِيَ إنَّمَا تُقْبَلُ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ لَا بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُ بَعْدَهُ قَضَاؤُهَا وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّصَدُّقِ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا لَا بِغَيْرِهِ.

ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ: وَسَيَقُولُ الْمُصَنِّفُ إنَّهَا تُشْبِهُ الزَّكَاةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ

<<  <  ج: ص:  >  >>