وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَسَعْ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يُقَامُ مَقَامَ الْيَقِينِ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا لِفُلَانٍ، وَلَكِنْ أَخْبَرَهُ صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهَا لِفُلَانٍ، وَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهَا أَوْ اشْتَرَاهَا مِنْهُ، وَالْمُخْبِرُ ثِقَةٌ قُبِلَ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً يُعْتَبَرُ أَكْبَرُ رَأْيِهِ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ صَاحِبُ الْيَدِ بِشَيْءٍ.
فَإِنْ كَانَ عَرَّفَهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ يَشْتَرِهَا حَتَّى يَعْلَمَ انْتِقَالَهَا إلَى مِلْكِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ يَدَ الْأَوَّلِ دَلِيلُ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا وَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ فَاسِقًا؛ لِأَنَّ يَدَ الْفَاسِقِ دَلِيلُ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْفَاسِقِ وَالْعَدْلِ وَلَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ عِنْدَ وُجُودِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَا يَمْلِكُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَزَّهَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا يُرْجَى أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِاعْتِمَادِهِ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ.
وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَاهُ بِهَا عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَمْ يَقْبَلْهَا وَلَمْ يَشْتَرِهَا حَتَّى يَسْأَلَ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا مِلْكَ لَهُ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَوْلَاهُ
لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ يَبْقَى مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ كَمَا فِي الدِّيَانَاتِ انْتَهَى.
ثُمَّ أَقُولُ: الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْكِتَابِ بَلْ يَتَّجِهُ إلَى غَيْرِهِ أَيْضًا. وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ: ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ إخْبَارَ غَيْرِ الْعَدْلِ يُقْبَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ التَّحَرِّي وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّحَرِّي وَمُحَمَّدٌ ﵀ ذَكَرَ الْقَيْدَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَقَالَ فِي التَّوْجِيهِ: فَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَيُشْتَرَطُ التَّحَرِّي، وَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ اسْتِحْسَانًا وَلَا يُشْتَرَطُ رُخْصَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ انْتَهَى.
وَقَدْ ذَكَرْت فِيمَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ عَنْ التَّلْوِيحِ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدِي مِنْ بَيْنِهَا هُوَ التَّوْجِيهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَاسِمُ لِمَادَّةِ الْإِشْكَالِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْمُعَامَلَاتِ وَالدِّيَانَاتِ، إذًا لَا رُخْصَةَ فِي الدِّيَانَاتِ بِدُونِ التَّحَرِّي، وَالْآنَ أَيْضًا أَقُولُ كَذَلِكَ، فَيَحْصُلُ بِهِ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ. (قَوْلُهُ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يُقَامُ مَقَامَ الْيَقِينِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: يَعْنِي فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كَالْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ إنْسَانٌ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا إذَا كَانَ ثِقَةً عِنْدَهُ أَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ، وَكَذَا إذَا دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى غَيْرِهِ لَيْلًا شَاهِرًا سَيْفَهُ فَلِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ أَنْ يَقْتُلَهُ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لِصٌّ قَصَدَ قَتْلَهُ وَأَخْذَ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ لِصٍّ لَمْ يُعَجِّلْ بِقَتْلِهِ انْتَهَى.
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ: لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يُقَامُ مَقَامَ الْيَقِينِ: أَيْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَجِبَ بِهِ شَيْءٌ كَالتَّوَجُّهِ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي، وَيَحْرُمَ بِهِ شَيْءٌ كَالصَّلَاةِ إذَا تَوَضَّأَ بِمَاءٍ أَخْبَرَ بِنَجَاسَتِهِ غَيْرُ ثِقَةٍ، وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَيُجْعَلُ أَكْبَرُ الرَّأْيِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا أَيْضًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَلْ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كَالْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ. وَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ: مَنْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ يُقَامُ مَقَامَ الْيَقِينِ: يَعْنِي فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ كَالْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ فَقَدْ سَهَا انْتَهَى. أَقُولُ: نِسْبَةُ السَّهْوِ إلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَذْكُورِ سَهْوٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ سَلَكَ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَذْكُورِ مَسْلَكَ الدَّلَالَةِ وَإِثْبَاتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute