للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ لَا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يُنَافِي كَوْنَ الِاسْمِ خَاصًّا فِيهِ

مِنْ قَبْلِنَا حَيْثُ قَالَ: لَا يَقُولُ الْخَصْمُ بِقَطْعِيَّةِ حُرْمَةِ غَيْرِ النِّيءِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ مُسْتَحِلَّهُ فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ الْإِلْزَامُ، هَذَا كَالرِّبَا فَإِنَّ حُرْمَتَهُ قَطْعِيَّةٌ، وَحُرْمَةُ بَيْعِ الْحَفْنِ بِالْحَفْنِ مُتَفَاضِلًا مَثَلًا لَيْسَتْ بِقَطْعِيَّةٍ انْتَهَى، أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ قَوْلِ الْخَصْمِ بِقَطْعِيَّةِ حُرْمَةِ غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ لَا يُنَافِي تَوَجُّهَ الْإِلْزَامِ عَلَيْهِمْ، بَلْ بِذَلِكَ يَتَوَجَّهُ الْإِلْزَامُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ أَنَّ اللَّهَ سَمَّى الْخَمْرَ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ رِجْسًا وَالرِّجْسُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ، وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ مُتَوَاتِرَةً أَنَّ النَّبِيَّ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَمَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ قَطْعِيٌّ جَزْمًا، فَإِذَا لَمْ يَقُلْ الْخَصْمُ بِقَطْعِيَّةِ حُرْمَةِ غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ تَعَيَّنَ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُ النِّيءِ خَمْرًا؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ قَطْعِيَّةَ الْحُرْمَةِ وَعَدَمَ قَطْعِيَّتِهَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ

فَقَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ الْإِلْزَامُ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَتَنْظِيرُهُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ، وَهَذَا كَالرِّبَا إلَى آخِرِهِ لَا يُجْدِي شَيْئًا؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا عِنْدَنَا الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ، أَوْ الْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الطَّعْمُ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ، فَفِي بَيْعِ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَةِ مُتَفَاضِلًا لَا يُوجَدُ الرِّبَا عِنْدَنَا لِعَدَمِ وُجُودِ عِلَّتِهِ فَلَا يَحْرُمُ ذَلِكَ الْبَيْعُ

وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَيُوجَدُ فِيهِ الرِّبَا لِوُجُودِ عِلَّتِهِ فَيَحْرُمُ فَكَوْنُ حُرْمَةِ الرِّبَا قَطْعِيَّةً يَصِيرُ حُجَّةً عَلَى الشَّافِعِيِّ هُنَاكَ أَيْضًا لِمِثْلِ مَا قُلْنَا هَا هُنَا فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّنْظِيرِ أَصْلًا (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ لَا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَلَك أَنْ تَقُولَ هَذَا مَنْعٌ لَا يَضُرُّ انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَوَّلًا أَنَّ هَذَا مَنْعٌ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَارَضَةً: يَعْنِي إنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ: أَيْ لِتَشَدُّدِهِ وَقُوَّتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ فَلَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ خَمْرًا، وَيُشِيرُ إلَيْهِ تَفْسِيرُ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبِ الْكِفَايَةِ هَا هُنَا حَيْثُ قَالَا: أَيْ لِتَشَدُّدِهِ وَقُوَّتِهِ فَإِنَّ لَهَا شِدَّةً وَقُوَّةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا حَتَّى سُمِّيَتْ أُمَّ الْخَبَائِثِ انْتَهَى

وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّ ذَاكَ مَنْعٌ لَا مُعَارِضَةً فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ لَا يَضُرُّ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِ الْخَصْمِ عَلَى كَوْنِ الْخَمْرِ اسْمًا لِكُلِّ مُسْكِرٍ بِقَوْلِهِ: وَلِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ، فَإِنَّهُ إذَا مُنِعَ قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ تَسْقُطُ هَذِهِ الْمُقَدَّمَةُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَتِمُّ دَلِيلُ الْخَصْمِ عَلَيْنَا وَهُوَ عَيْنُ الضَّرَرِ لَهُ

ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ فِي شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: هَذَا وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَعْنِي غَيْرَ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ: أَيْ لِصَيْرُورَتِهِ مُرًّا كَالْخَمْرِ لَا لِمُخَامَرَتِهِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ سُمِّيَ خَمْرًا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ انْتَهَى

أَقُولُ: هَذَا شَرْحٌ فَاسِدٌ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ أَصْلًا؛ إذْ حِينَئِذٍ لَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ الْمَذْكُورِ وَلَا يَرْتَبِطُ بِهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يُنَافِي كَوْنَ الِاسْمِ خَاصًّا فِيهِ، وَلَعَمْرِي إنَّ هَذَا الشَّرْحَ عَجِيبٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الشَّارِحِ، وَكَانَ لَنَا أَنْ نَحْمِلَ كَلِمَةَ: غَيْرَ فِي قَوْلِهِ: يَعْنِي غَيْرَ النِّيءِ عَلَى السَّهْوِ مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ الْأَوَّلِ لَوْلَا قَوْلُهُ كَالْخَمْرِ فِي قَوْلِهِ أَيْ لِصَيْرُورَتِهِ مُرًّا كَالْخَمْرِ، فَإِنَّ التَّشْبِيهَ بِالْخَمْرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ غَيْرَ الْخَمْرِ وَهُوَ غَيْرُ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ

وَالصَّوَابُ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي إنَّمَا سَمَّى النِّيءَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ: أَيْ لِتَغَيُّرِهِ وَاشْتِدَادِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ خَمْرًا لَا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ: أَيْ لَيْسَتْ التَّسْمِيَةُ لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ: أَيْ سِتْرِهِ الْعَقْلَ حَتَّى يُوجَدَ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ فِي غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ أَيْضًا فَيَكُونُ خَمْرًا

فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ الِارْتِبَاطُ بِالسَّبَّاقِ وَاللَّحَاقِ كَمَا لَا يَخْفَى

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ لِتَخَمُّرِهِ: أَيْ لِصَيْرُورَتِهِ خَمْرًا

أَقُولُ: هَذَا تَفْسِيرٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ مُؤَدٍّ إلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>