وَالْقَبْضُ شَرْطُ اللُّزُومِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ فَأَشْبَهَ الْكَفَالَةَ
وَلَنَا مَا تَلَوْنَا، وَالْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي مَحَلِّ الْجَزَاءِ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ،
عَلَيْهِ، وَلَا نَعْنِي بِالتَّبَرُّعِ إلَّا ذَلِكَ
وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَتِمُّ بِالْمُتَبَرَّعِ فَكَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَقَالَ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ صَيْرُورَتَهُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِيجَابِ مَا يَكُونُ ابْتِدَاءً، وَالرَّهْنُ لَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ إنْ لَمْ يَسْتَوْجِبْ شَيْئًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ ابْتِدَاءً فَقَدْ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ شَيْئًا فِي الْبَقَاءِ، وَهُوَ صَيْرُورَةُ الْمُرْتَهِنِ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ، فَلَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ عَقْدَ تَبَرُّعٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ مِنْ وَجْهٍ حَيْثُ صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتِمَّ بِإِيجَابِ الرَّاهِنِ وَحْدَهُ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِ الْمُرْتَهِنِ أَيْضًا حَتَّى يَتِمَّ جَعْلُنَا إيَّاهُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ حُكْمًا عِنْدَ الْهَلَاكِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا عَلَى مَا سَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ فَلْيُتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَالْقَبْضُ شَرْطُ اللُّزُومِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ وَيَتِمُّ بِالْقَبْضِ فَيَكُونُ الرَّهْنُ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزًا، وَبِهِ يَلْزَمُ، وَهُوَ أَيْضًا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ عَامَّةِ الْكُتُبِ
قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ إلَّا مَقْبُوضًا
وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي: لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ غَيْرَ مَقْبُوضٍ
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَلَا يَجُوزُ إلَّا مَقْبُوضًا مُفَرَّغًا مَحُوزًا
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ إلَّا مَقْبُوضًا، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ
وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ دَفْعَ مُخَالَفَةِ مَا فِي الْكِتَابِ لِرِوَايَةِ عَامَّةِ الْكُتُبِ فَقَالَ: سَبَقَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً» وَالْقَبْضُ لَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ فِي الْهِبَةِ فَلْيَكُنْ هُنَا كَذَلِكَ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى
أَقُولُ: هَذَا قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ؛ إذْ قَدْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ هُنَاكَ إلَى صَرْفِ نَفْيِ الْجَوَازِ عَنْ ظَاهِرِهِ؛ إذْ الْجَوَازُ قَبْلَ الْقَبْضِ ثَابِتٌ هُنَاكَ بِالْإِجْمَاعِ، فَحَمَلْنَا نَفْيَ الْجَوَازِ بِدُونِ الْقَبْضِ فِي قَوْلِهِ ﵊ «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً» عَلَى نَفْيِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْهِبَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ
وَأَمَّا هُنَا فَلَا ضَرُورَةَ وَلَا مَجَالَ لِلْحَمْلِ عَلَى نَفْيِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُرْتَهِنِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَثُبُوتِهِ لَهُ بِالْقَبْضِ كَمَا هُوَ مُوجِبُ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ؛ إذْ لَيْسَ حُكْمُ الرَّهْنِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُرْتَهِنِ بِحَالٍ أَصْلًا فَبَقِيَ نَفْيُ الْجَوَازِ هَا هُنَا عَلَى ظَاهِرِهِ
قَوْلُهُ (وَلَنَا مَا تَلَوْنَا، وَالْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي مَحَلِّ الْجَزَاءِ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ) نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ أَيْ فَاضْرِبُوهَا وقَوْله تَعَالَى ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أَيْ فَلْيُحَرِّرْهَا