للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ (وَلَا يُقْتَلُ بِالْمُسْتَأْمَنِ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْقُونِ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَكَذَلِكَ كُفْرُهُ بَاعِثٌ عَلَى الْحِرَابِ؛

بِالْكَافِرِ فِي قَوْلِهِ «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» هُوَ الْحَرْبِيُّ بِدَلِيلِ سِيَاقِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى: مُؤْمِنٌ، فَالْمَعْنَى: وَلَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ بِكَافِرٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَا الْعَهْدِ وَهُوَ الذِّمِّيُّ إنَّمَا لَا يُقْتَلُ بِالْحَرْبِيِّ دُونَ الذِّمِّيِّ، فَإِنَّ جَرَيَانَ الْقِصَاصِ بَيْنَ الذِّمِّيِّينَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذِي الْعَهْدِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْمُسْلِمَ دُونَ الذِّمِّيِّ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَلَا جَرَمَ يَكُونُ الْمُرَادُ بِذِي الْعَهْدِ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمُؤْمِنِ غَيْرَ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَالْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ

فَإِنْ قِيلَ: وَلَمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَلَا ذُو عَهْدِ فِي عَهْدِهِ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ: أَوْ لَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدِ فِي مُدَّةِ عَهْدِهِ

قُلْنَا: لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ حَقِيقَةً خُصُوصًا فِيمَا لَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ

وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ نَفْيُ الْقَتْلِ قِصَاصًا لَا نَفْيُ مُطْلَقِ الْقَتْلِ، فَكَذَا فِي الثَّانِي تَحْقِيقًا لِمُقْتَضَى الْعَطْفِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، هَذَا جُمْلَةُ مَا فِي الْكَافِي وَأَكْثَرِ الشُّرُوحِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَخْذًا مِنْ الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ جَوَابٌ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ: إنَّ الَّذِي حَكَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنْ عَلِيٍّ لَمْ يَكُنْ مُفْرَدًا، وَلَوْ كَانَ مُفْرَدًا لَاحْتَمَلَ مَا قَالُوا وَلَكِنْ كَانَ مَوْصُولًا بِغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِسِيَاقِهِ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ

وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَطَفَ هَذَا عَلَى الْأَوَّلِ وَالْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ فَيَكُونُ كَلَامًا تَامًّا فِي نَفْسِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَدَائِهِ إلَّا أَنْ لَا يُقْتَلَ ذُو عَهْدٍ مُدَّةَ عَهْدِهِ وَإِنْ قَتَلَ مُسْلِمًا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بِالْإِجْمَاعِ فَيُقَدَّرُ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْله تَعَالَى ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ ثُمَّ الْكَافِرُ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ ذُو عَهْدٍ هُوَ الْحَرْبِيُّ بِالْإِجْمَاعِ فَيُقَدَّرُ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ، وَإِذْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَرْبِيٍّ يُقَدَّرُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ أَعَمَّ، وَالْأَعَمُّ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْأَخَصِّ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، فَمَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لَا يَكُونُ دَلِيلًا هَذَا خُلْفٌ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ مِنْ الْوُجُوهِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْأَعَمَّ إنَّمَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَخَصِّ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ مِنْ حَيْثُ خُصُوصِيَّةُ الْأَخَصِّ: أَيْ لَا يَدُلُّ الْأَعَمُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ هُوَ الْأَخَصَّ وَحْدَهُ، وَهَذَا مَعْنَى مَا يُقَالُ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ: لَا دَلَالَةَ لِلْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ بِإِحْدَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ

وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ انْدِرَاجُ الْأَخَصِّ تَحْتَ ذَلِكَ الْأَعَمِّ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا بِوَاسِطَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِذَلِكَ الْأَخَصِّ وَلِغَيْرِهِ أَيْضًا؛ أَلَا يَرَى أَنَّا إذَا قُلْنَا كُلُّ حَيَوَانٍ مُتَحَرِّكٍ بِالْإِرَادَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْإِنْسَانِ مُتَحَرِّكًا بِالْإِرَادَةِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لِانْدِرَاجِهِ تَحْتَ الْحَيَوَانِ، وَكَذَا حَالُ سَائِرِ الْكُلِّيَّاتِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا تَحْتَهَا مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا سُتْرَةَ بِهِ، فَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ حَرْبِيٌّ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَكَانَ كَافِرٌ أَعَمَّ مِنْ الْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ لَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا يُقْتَلَ مُؤْمِنٌ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْرَادِ الْكَافِرِ وَحَصَلَ مَطْلُوبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ لَا يَكُونَ مَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ دَلِيلًا لَهُ عَلَى مُدَّعَاهُ كَمَا زَعَمَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ

وَالثَّانِي أَنَّ عَدَمَ كَوْنِ مَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ دَلِيلًا لَهُ لَا يَقْتَضِي تَقْدِيرَ شَيْءٍ فِي الْحَدِيثِ؛ إذْ لَا يَتْبَعُ تَعَيُّنُ مَعْنَى الْحَدِيثِ جَعْلَ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ دَلِيلًا عَلَى مُدَّعَاهُ، بَلْ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ تَعَيُّنِ مَعْنَاهُ، فَمَا مَعْنَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَدَمِ عُمُومِ الْكَافِرِ فِي الْحَدِيثِ بِلُزُومِ أَنْ لَا يَكُونَ مَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ دَلِيلًا لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ عُمُومِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى تَقْرِيرِ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ

وَالثَّالِثُ أَنَّ مَا عَدَّهُ مَحْذُورًا، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ دَلِيلًا لَهُ لَازِمٌ أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقَدَّرَ حَرْبِيٌّ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى رَأْيِهِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ مُبَايِنٌ لِلذِّمِّيِّ لَا مَحَالَةَ، وَعَدَمُ دَلَالَةِ أَحَدِ الْمُتَبَايِنَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَظْهَرُ مِنْ عَدَمِ دَلَالَةِ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، فَإِنْ لَزِمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَافِرٌ فِي الْحَدِيثِ أَعَمَّ أَنْ لَا يَكُونَ مَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ دَلِيلًا لَهُ فَلَأَنْ لَزِمَ مِنْ أَنْ يُقَيَّدَ كَافِرٌ فِي الْحَدِيثِ بِحَرْبِيٍّ أَنْ لَا يَكُونَ مَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>