قَالَ: (وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ أَوْ جَرَحَهُ جَائِفَةٌ فَبَرَأَ مِنْهَا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، إذْ الْأَوَّلُ كَسْرُ الْعَظْمِ وَلَا ضَابِطَ فِيهِ، وَكَذَا الْبُرْءُ نَادِرٌ فَيُفْضِي الثَّانِي إلَى الْهَلَاكِ ظَاهِرًا. قَالَ: (وَإِذَا كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعِ صَحِيحَةً وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءَ أَوْ نَاقِصَةَ الْأَصَابِعِ فَالْمَقْطُوعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ الْيَدَ الْمَعِيبَةَ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ كَامِلًا) لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ كَامِلًا مُتَعَذَّرٌ فَلَهُ أَنْ يَتَجَوَّزَ بِدُونِ حَقِّهِ وَلَهُ أَنْ يَعْدِلَ إلَى الْعِوَضِ كَالْمِثْلِيِّ إذَا انْصَرَمَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ بَعْدَ الْإِتْلَافِ ثُمَّ إذَا اسْتَوْفَاهَا نَاقِصًا فَقَدْ رَضِيَ بِهِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ كَمَا إذَا رَضِيَ بِالرَّدِيءِ مَكَانَ الْجَيِّدِ (وَلَوْ سَقَطَتْ الْمُؤْنَةُ قَبْلَ اخْتِيَارِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ قُطِعَتْ ظُلْمًا فَلَا شَيْءَ لَهُ) عِنْدَنَا لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي الْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْمَالِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَسْقُطُ بِفَوَاتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ بِحَقٍّ عَلَيْهِ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ
الْأُولَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَخْرَجَ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ مِنْ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ بِكَلَامٍ مَوْصُولٍ بِهَا فَتَكُونُ بَاقِيَةً عَلَى قَطْعِيَّتِهَا الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَقَدَّمْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ نَظِيرَ هَذَا النَّظَرِ فِي مَحَالِّهِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ إنَّمَا يُفِيدُ عَدَمَ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ، وَلَا يُفِيدُ عَدَمَ جَرَيَانِهِ فِيهَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَلَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، فَبَقِيَ الِاعْتِرَاضُ بِإِطْلَاقِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ فَلَمْ يَتِمَّ الْجَوَابُ.
وَالصَّوَابُ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ آيَةُ الْقِصَاصِ وَالْقِصَاصُ يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ، فَالْمُرَادُ بِمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ لَا غَيْرَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ هَاتِيَكَ الْآيَةِ مِنْ التَّنْزِيلِ حَيْثُ قَالَ: وَمَعْنَاهُ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَتُعْرَفُ الْمُسَاوَاةُ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: وَهُوَ يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ، فَكُلُّ مَا أَمْكَنَ رِعَايَتُهَا فِيهِ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَمَا لَا فَلَا، وَأَشَارَ إلَيْهِ هَاهُنَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: فَيَنْعَدِمُ التَّمَاثُلُ بِالتَّفَاوُتِ بِالْقِيمَةِ فَلَمْ تَكُنْ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ مُجْرَاةً عَلَى ظَاهِرِ إطْلَاقِهَا حَتَّى يَكُونَ إطْلَاقُهَا حُجَّةً عَلَيْنَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَكَيْف يُتَصَوَّرُ إجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِ إطْلَاقِهَا، وَلَا قِصَاصَ فِي الْعَيْنِ إذَا قَلَعَهَا بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَلْعِ، وَكَذَا الْحَالُ فِي قَطْعِ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ مِنْ غَيْرِ الْمِفْصَلِ، وَكَذَا فِيمَا إذَا قَطَعَ الْحُرُّ طَرْفَ الْعَبْدِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَدَارَ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ إمْكَانُ الْمُمَاثَلَةِ وَأَنَّ مَعْنَى النَّظْمِ الشَّرِيفِ مَصْرُوفٌ إلَى ذَلِكَ فَانْدَفَعَ الِاعْتِرَاضُ النَّاشِئُ مِنْ تَوَهُّمِ الْإِطْلَاقِ.
ثُمَّ إنَّهُ بَقِيَ فِي هَذَا الْمَقَامِ إشْكَالٌ قَوِيٌّ ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: سَلَّمْنَا وُجُودَ التَّفَاوُتِ فِي الْقِيمَةِ فِي الْأَطْرَافِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ، لَكِنَّ الْمَعْقُولَ مِنْهُ أَنْ يَمْنَعَ اسْتِيفَاءَ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ دُونَ الْعَكْسِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الشَّلَّاءَ تُقْطَعُ بِالصَّحِيحَةِ وَأَنْتُمْ لَا تَقْطَعُونَ يَدَ الْمَرْأَةِ بِيَدِ الرَّجُلِ أَيْضًا، وَالشُّرَّاحُ كَانُوا فِي طَرِيقِ دَفْعِهِ طَرَائِقَ قِدَدًا، فَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَالْجَوَابُ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ وِقَايَةً لِلْأَنْفُسِ كَالْمَالِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ التَّفَاوُتُ الْمَالِيُّ مَانِعًا مُطْلَقًا وَالشَّلَلُ لَيْسَ مِنْهُ فَيُعْتَبَرُ مَانِعًا مِنْ جِهَةِ الْأَكْمَلِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ تَفَاوُتًا مَالِيًّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجِبُ تَفَاوُتًا فِي الْمَنْفَعَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute