لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَيَكُونُ لِدَوَامِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْأَمْرِ وَقَدْ بَطَلَ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَشَرْطٌ أَنْ يَكُونَ الْجُنُونُ مُطْبِقًا لِأَنَّ قَلِيلَهُ
كَانَتْ الْوَكَالَةُ لَازِمَةً بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ الْمُوَكِّلُ عَلَى عَزْلِهِ لَا يَكُونُ لِبَقَاءِ الْوَكَالَةِ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ، وَكَانَ الْوَكِيلُ فِي هَذِهِ الْوَكَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ. وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ثُمَّ جُنَّ الْمُمَلِّكُ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ مِلْكُهُ، كَمَا لَوْ مَلَكَ عَيْنًا فَكَذَا إذَا مَلَكَ التَّصَرُّفَ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ إذَا جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا ثُمَّ جُنَّ الزَّوْجُ لَا يَبْطُلُ الْأَمْرُ انْتَهَى، وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ قَالَ فِي التَّتِمَّةِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى: وَهَذَا كُلُّهُ فِي مَوْضِعٍ يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ، أَمَّا فِي مَوْضِعٍ لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ كَالْعَدْلِ فِي بَابِ الرَّهْنِ وَالْأَمْرِ بِالْيَدِ لِلْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَجُنُونِهِ، وَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ بِالْتِمَاسِ الْخَصْمِ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَجُنُونِهِ، وَالْوَكِيلُ بِالطَّلَاقِ يَنْعَزِلُ بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ اسْتِحْسَانًا وَلَا يَنْعَزِلُ قِيَاسًا انْتَهَى. أَقُولُ: فِي الْمَنْقُولِ عَنْ التَّتِمَّةِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ عِبَارَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْيَدِ لِلْمَرْأَةِ مِنْ بَابِ التَّوْكِيلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّمْلِيكِ لَا التَّوْكِيلِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ فِي بَابِ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ، بِخِلَافِ عِبَارَةِ الذَّخِيرَةِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ.
ثُمَّ أَقُولُ: فِيمَا بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ تَقْسِيمَهُمْ الْوَكَالَةَ عَلَى اللَّازِمَةِ وَغَيْرِ اللَّازِمَةِ وَحَمْلَهُمْ الْجَوَابَ فِي الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ عَلَى الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى يُنَافِي مَا ذَكَرُوا فِي صَدْرِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ مِنْ أَنَّ صِفَةَ الْوَكَالَةِ هِيَ أَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى يَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ الْعَزْلَ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِهِ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ صِفَتُهَا الْعَامَّةُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ فِي الْوَكَالَةِ عَدَمُ اللُّزُومِ، وَاللُّزُومُ فِي أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِعَارِضٍ وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ عَلَى عَكْسِ مَا قَالُوا فِي الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ كَمَا سَيَأْتِي فَتَأَمَّلْ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ (لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ غَيْرُ لَازِمٍ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ: إذْ اللُّزُومُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ فِي فَسْخِهَا، فَإِنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَمْنَعَ الْوَكِيلَ عَنْهَا انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ إلَى هَذَا التَّعْلِيلِ. أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَ الْوُجُودِ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُتَحَقِّقٌ فِي كُلِّ عَقْدٍ لَازِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ مَا يَتَوَقَّفُ فَسْخُهُ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ فَقَوْلُهُمَا إذًا لِلُّزُومِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إذْ التَّصَرُّفُ اللَّازِمُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَتَوَقَّفُ فَسْخُهُ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ (فَيَكُونُ لِدَوَامِهِ) أَيْ لِدَوَامِ التَّوْكِيلِ (حُكْمُ ابْتِدَائِهِ) لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إذَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ كَانَ الْمُتَصَرِّفُ بِسَبِيلٍ مِنْ فَسْخِهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ دَوَامِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْفَسِخْ جُعِلَ امْتِنَاعُهُ عَنْ الْفَسْخِ عِنْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ تَصَرُّفٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ إنْزَالًا لِلْمُتَمَكِّنِ مَكَانَ الْمُبْتَدِئِ وَالْمُنْشِئِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى﴾ فَصَارَ كَأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ عَقْدُ الْوَكَالَةِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَيَنْتَهِي، فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ (فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْأَمْرِ) أَيْ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِالتَّوْكِيلِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ إذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَمْرِهِ بِذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، فَكَذَا فِيمَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ (وَقَدْ بَطَلَ) أَيْ أَمْرُ الْمُوَكِّلِ (بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ) وَهِيَ الْمَوْتُ وَالْجُنُونُ وَالِارْتِدَادُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْبَيْعُ بِالْخِيَارِ غَيْرُ لَازِمٍ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالْمَوْتِ بَلْ يَتَقَرَّرُ وَيَبْطُلُ الْخِيَارُ. قُلْنَا: الْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ اللُّزُومُ وَعَدَمُ اللُّزُومِ بِسَبَبِ الْعَارِضِ وَهُوَ الْخِيَارُ، فَإِذَا مَاتَ تَقَرَّرَ الْأَصْلُ وَبَطَلَ الْعَارِضُ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (وَشَرْطٌ) أَيْ شَرْطٌ فِي بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ (أَنْ يَكُونَ الْجُنُونُ مُطْبِقًا لِأَنَّ قَلِيلَهُ) أَيْ قَلِيلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute