قَالَ (الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ) وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ زَوَالِ مَالِكِيَّتِهِ، وَلَوْ أُضِيفَ إلَى حَالِ قِيَامِهَا بِأَنْ قِيلَ مَلَّكْتُك غَدًا كَانَ بَاطِلًا فَهَذَا أَوْلَى، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ
لِحَاجَةِ النَّاسِ
إلَيْهَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَغْرُورٌ بِأَمَلِهِ مُقَصِّرٌ فِي عَمَلِهِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ الْمَرَضُ وَخَافَ الْبَيَانَ يَحْتَاجُ إلَى تَلَافِي بَعْضِ مَا فَرَّطَ مِنْهُ مِنْ التَّفْرِيطِ بِمَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ مَضَى فِيهِ يَتَحَقَّقُ مَقْصِدُهُ الْمَآلِيُّ، وَلَوْ أَنْهَضَهُ الْبُرْءُ يَصْرِفُهُ إلَى مَطْلَبِهِ الْحَالِيِّ،
وَالْوُجُوبُ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا لَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ مِنْهُ. لِأَنَّا نَقُولُ: نَفْيُ الِاسْتِحْبَابِ يَعُمُّ الْجَوَازَ وَالْوُجُوبَ وَعَدَمَ صِحَّةِ طَرَفِ الْفِعْلِ أَصْلًا، فَمِنْ أَيْنَ يَدُلُّ مَا لَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ عَلَى مَا هُوَ الْوَاجِبُ مِنْهُ فَقَطْ حَتَّى يَجُوزَ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ. وَلَئِنْ سَلِمَ جَوَازُ إرَادَةِ ذَلِكَ بِهِ يَفْسُدُ مَعْنَى الْمَقَامِ إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يُدْرِجَ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ مِنْ الْوَصِيَّةِ فَيُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ لَمْ يُوجَدْ لِمَا ارْتَكَبَهُ مَحْمَلٌ صَحِيحٌ قَطُّ، فَالصَّوَابُ أَنْ لَا تَقْدِيرَ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا، فَإِنَّ صِفَاتِ الْوَصِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ هِيَ الْجَوَازُ وَالِاسْتِحْبَابُ وَالرُّجُوعُ عَنْهَا: أَيْ كَوْنُهَا مَرْجُوعًا عَنْهَا، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا حَاصِلَةٌ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ صَرَاحَةً فَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيرِ شَيْءٍ أَصْلًا حَتَّى عَدَمُ الْجَوَازِ فَإِنَّهُ صِفَةٌ لِلْوَصِيَّةِ الْغَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعُنْوَانُ الْبَابِ إنَّمَا كَانَ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. نَعَمْ قَدْ يَذْكُرُ فِي أَثْنَاءِ مَسَائِلِ الْبَابِ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْوَصَايَا، لَكِنْ لِأَجْلِ إزَالَةِ أَنْ يُتَوَهَّمُ كَوْنُهُ مِنْ الْوَصَايَا الْجَائِزَةِ الشَّرْعِيَّةِ، لَا لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْبَيَانِ بِالذَّاتِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي مَسَائِلِ سَائِرِ الْكُتُبِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لَكِنَّ الظَّاهِرَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الظَّاهِرَ ذَلِكَ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدًا سِوَاهُ صَرَّحَ بِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي صَرَّحُوا بِهِ أَنَّ صِفَةَ الْوَصِيَّةِ فِي الشَّرْعِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، لَا أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالصِّفَةِ فِي قَوْلِهِ بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُمْ إنَّمَا ذَكَرُوا مَا صَرَّحُوا بِهِ عِنْد بَيَانِ مُتَعَلِّقَاتِ الْوَصِيَّةِ مِنْ سَبَبِهَا وَشَرَائِطِهَا وَرُكْنِهَا وَحُكْمِهَا وَصِفَتِهَا لَا عِنْدَ شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ إلَخْ وَكَمْ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ؟ وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَالْأَوْلَى إيرَادُهُ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ إذْ لَوْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصِّفَةِ فِي قَوْلِهِ " بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ " مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا زَعَمَهُ الْقَائِلُ لَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ " بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ " أَيْ فِيمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهَا وَفِيمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ " وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ " لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ لِكَوْنِهِ تَكْرَارًا مَحْضًا فَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ نَسِيَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ عِنْدَ كَتْبِ قَوْلِهِ فَالْأَوْلَى إيرَادُهُ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ وَلَعَمْرِي أَنَّهُ عَجِيبٌ مِنْ مِثْلِهِ.
(قَوْلُهُ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ) أَقُولُ: الْحُكْمُ بِالِاسْتِحْبَابِ عَلَى الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا لَا يُنَاسِبُ مَا مَرَّ آنِفًا فِي عُنْوَانِ الْبَابِ مِنْ قَوْلِهِ مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ، وَلَا مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ جَائِرَةٌ وَبِدُونِ الثُّلُثِ مُسْتَحَبَّةٌ إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ لَا يَسْتَغْنُونَ بِمَا يَرِثُونَ فَتَرْكُ الْوَصِيَّةِ أَوْلَى، فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أَوْ جَائِزَةٌ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُوَجَّهَ قَوْلُهُ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ غَايَةَ أَمْرِهَا الِاسْتِحْبَابُ دُونَ الْوُجُوبِ لَا أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنَّهَا لَا تَصِلُ إلَى مَرْتَبَةِ الْوُجُوبِ بَلْ قُصَارَى أَمْرِهَا الِاسْتِحْبَابُ، لَكِنْ يُرَدُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute