للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَفِي شَرْعِ الْوَصِيَّةِ ذَلِكَ فَشَرَعْنَاهُ، وَمِثْلُهُ فِي الْإِجَارَةِ بَيَّنَّاهُ، وَقَدْ تَبْقَى الْمَالِكِيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ كَمَا فِي قَدْرِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ

عَلَيْهِ النَّقْضُ بِالْوَصِيَّةِ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ، قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ: قَوْلُهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا يَرِثُونَ فَرْضٌ، وَلِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ ثَرْوَةٌ وَيَسَارٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ وَالْمَكْتُوبُ عَلَيْنَا فَرْضٌ، وَلَمَّا لَمْ يُفْهَمْ الِاسْتِحْبَابُ مِنْ نَفْيِ الْوُجُوبِ لِجَوَازِ الْإِبَاحَةِ قَالَ: وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي قَوْلِهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا يَرِثُونَ فَرْضٌ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْفَرْضَ غَيْرُ الْوَاجِبِ عِنْدَنَا، إذْ الْفَرْضُ مَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَالْوَاجِبُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْوَصِيَّةِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ كَوْنُهَا غَيْرَ فَرْضٍ فَكَيْفَ يَحْصُلُ الرَّدُّ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا فَرْضٌ فِي حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ الرَّدَّ لِقَوْلِ ذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ. ثُمَّ إنَّ فِي أُسْلُوبِ تَحْرِيرِهِ سَمَاجَةً ظَاهِرَةً إذْ الظَّاهِرُ مِنْ تَأْخِيرِ قَوْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ﴾ إلَخْ عَنْ مَجْمُوعِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ دَلِيلًا عَلَيْهِمَا، بَلْ الْمُتَبَادَرُ أَنْ تَكُونَ دَلِيلًا عَلَى قُرْبَتِهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لَأَنْ تَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، وَصَاحِبُ النِّهَايَةِ وَإِنْ شَارَكَهُ فِي تَأْخِيرِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَنْ مَجْمُوعِ الْقَوْلَيْنِ الْمَزْبُورَيْنِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ بَعْدَهُ مِنْ السُّنَّةِ حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يُرِيدُ الْوَصِيَّةَ فِيهِ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ» انْتَهَى.

فَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ دَلِيلًا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَالدَّلِيلُ الثَّانِي عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِطَرِيقِ التَّوْزِيعِ عَلَى اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْغَايَةِ فَقَدْ قَصَرَ الذِّكْرَ عَلَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ فَقَصَرَ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ دَلِيلَيْ الْخَصْمَيْنِ مُسْتَقْصًى وَمُسْتَوْفًى فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا فَلَا عَلَيْنَا أَنْ لَا نَذْكُرَهُ هَاهُنَا.

(قَوْلُهُ وَقَدْ تَبْقَى الْمَالِكِيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ كَمَا فِي قَدْرِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَقَدْ تَبْقَى الْمَالِكِيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ جَوَابٌ عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لَا يَصْلُحُ الْجَوَابُ عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ بِمُجَرَّدِ بَقَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ: وَلَوْ أُضِيفَ إلَى حَالِ قِيَامِهَا بِأَنْ قَالَ مَلَّكْتُك غَدًا كَانَ بَاطِلًا فَهَذَا أَوْلَى، فَاللَّازِمُ مِنْ بَقَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ انْتِفَاءُ أَوْلَوِيَّةِ الْبُطْلَانِ لَا انْتِفَاءُ نَفْسِ الْبُطْلَانِ فَلَا يُجْدِي نَفْعًا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُتَمَحَّلَ بِأَنْ يُقَالَ: مَعْنَى كَوْنِهِ جَوَابًا عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ مُجَرَّدُ تَضَمُّنِهِ قَدْحَ مُقَدِّمَةٍ مَذْكُورَةٍ فِيهِ وَهِيَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ زَوَالِ مَالِكِيَّتِهِ لَا كَوْنُهُ جَوَابًا قَاطِعًا لَهُ عَنْ عِرْقِهِ. وَالْأَوْجُهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مُجَرَّدَ تَتْمِيمٍ لِوَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي تَجْوِيزِ تَمْلِيكٍ مُضَافٍ إلَى حَالِ زَوَالِ الْمَالِكِيَّةِ نَوْعُ اسْتِبْعَادٍ لِكَوْنِ التَّمْلِيكِ فَرْعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ تَدَارَكَ دَفْعَهُ بِأَنْ قَالَ: إنَّ الْمَالِكِيَّةَ لَا تَزُولُ عَنْ الْإِنْسَانِ بِالْكُلِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، بَلْ تَبْقَى مَالِكِيَّتُهُ بَعْدَهُ فِي حَقِّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَمَا فِي قَدْرِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ وَمِنْهُ الْوَصِيَّةُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ.

(قَوْلُهُ وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ عَلَى نَسْخِ قَوْله تَعَالَى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>