«الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» وَفَسَّرُوهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَبِالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ.
قَالَ (إلَّا أَنَّ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُمْ كِبَارٌ) لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِمْ وَهُمْ أَسْقَطُوهُ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِجَازَتِهِمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ) لِأَنَّهَا قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ إذْ الْحَقُّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ، لِأَنَّ السَّاقِطَ مُتَلَاشٍ.
الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ حَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهِ إلَّا فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، فَالْوَصِيَّةُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ تَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إجَازَتِهِمْ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ فِي الْمَرَضِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابٌ مُضَافٌ إلَى زَمَانِ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ الْمَوْتِ لَا وَقْتُ وُجُودِ الْكَلَامِ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ تَدَبَّرْ.
(قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُمْ كِبَارٌ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ: أَرَادَ لَا تَجُوزُ فِي حَقِّ الْفَضْلِ عَلَى الثُّلُثِ بَلْ فِي حَقِّ الثُّلُثِ فَقَطْ، لَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ أَصْلًا. وَقَالَ هُنَا: فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَجُوزُ إعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي بَعْضِ مَدْلُولِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَبِأَيِّ تَوْجِيهٍ أَمْكَنَ ذَلِكَ حَتَّى جَازَتْ فِي الثُّلُثِ وَبَطَلَتْ فِي الْفَضْلِ إنْ رَدُّوا؟ قُلْت: يَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ وَصَايَا مُتَعَدِّدَةٍ بِأَنْ يُجْعَلَ مَثَلًا قَوْلُهُ أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِثُلُثَيْ مَالِي فِي قُوَّةٍ أَوْصَيْت لَهُ بِثُلُثِهِ وَثُلُثُهُ الْآخَرُ، وَيُجْعَلَ قَوْلُهُ أَوْصَيْت لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَدْ كَانَ ثُلُثُ مَالِهِ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ أَوْصَيْت لَهُ بِثَمَانِيَةِ آلَافٍ وَبِأَلْفَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ صِيَانَةً لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ إلْغَائِهِ مَا أَمْكَنَ، وَحَذَرًا عَنْ إبْطَالِ حَقٍّ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِعَقْدٍ صَدَرَ عَنْ عَاقِلٍ بِلَفْظٍ يَجُوزُ تَصْحِيحُهُ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيلِ فَتَدَبَّرْ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُهِمُّ فَهْمُهُ انْتَهَى.
أَقُولُ: حَسِبَ أَنَّهُ أَتَى بِأَمْرٍ مُهِمٍّ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ مَعْنَى الْمَقَامِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ إنَّمَا ارْتَكَبَ شَطَطًا، فَإِنَّ صِحَّةَ بَعْضِ أَجْزَاءِ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَفَسَادَ بَعْضٍ آخَرَ مِنْهُ لَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ لَا بِحَسَبِ الْعَقْلِ وَلَا بِحَسَبِ الْفِقْهِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إذَا جُمِعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ فِي بَيْعٍ بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ جُمِعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُكَاتَبٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ فِيهِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَفَسَدَ فِيمَا ضُمَّ إلَيْهِ مِنْ الْمُدَبَّرِ أَوْ الْمُكَاتَبِ أَوْ أُمِّ الْوَلَدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْآخَرِ، وَكَذَا الْحَالُ فِيمَا إذَا جُمِعَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهَا فِي النِّكَاحِ، وَالْمَحْذُورُ بِحَسَبِ الْعَقْلِ إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ مَحِلُّ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَاحِدًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَعَدِّدًا بِأَنْ كَانَ مَحِلُّ الصِّحَّةِ بَعْضًا مِنْ شَيْءٍ ذِي أَجْزَاءٍ وَمَحِلُّ الْفَسَادِ بَعْضًا آخَرَ مِنْهُ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ عَقْلًا أَصْلًا، فَلَا وَلِجَعْلِ وَصِيَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي حُكْمِ وَصَايَا مُتَعَدِّدَةٍ بِلَا أَمْرٍ دَاعٍ إلَيْهِ، وَصِيَانَةُ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَالْحَذَرُ عَنْ إبْطَالِ حَقٍّ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِعَقْدٍ صَدَرَ عَنْ عَاقِلٍ مِمَّا لَا يَدْعُو إلَيْهِ أَصْلًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ إلْغَاءَ الْوَصِيَّةِ فِيمَا فَضَلَ عَنْ الثُّلُثِ إذَا رَدَّهُ الْوَرَثَةُ، وَإِثْبَاتُهَا فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ ضَرُورِيٌّ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرَهِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ وَصِيَّةً بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ وَصَايَا مُتَعَدِّدَةٍ أَوْ أُبْقِيَتْ عَلَى حَالِهَا الظَّاهِرَةِ مِنْ كَلَامِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْبَعْضُ هُنَا أَمْرٌ وَهْمِيٌّ لَا أَصْلَ لَهُ كَمَا تَرَى.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ السَّاقِطَ مُتَلَاشٍ) قَالَ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَتَقْرِيرُهُ لِأَنَّ إجَازَتَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ سَاقِطَةً لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا مَحِلَّهَا وَالسَّاقِطُ مُتَلَاشٍ فَإِجَازَتُهُمْ مُتَلَاشِيَةٌ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا بَعْدَ الْمَوْتِ مَا أَجَازُوهُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَأَنْ يُقَالَ: إنَّ إجَازَتَهُمْ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ سَاقِطَةٌ، لِأَنَّ إجَازَتَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ أَصْلًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا قَبْلُ وَبَيَّنَهُ، وَالسُّقُوطُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَهُ ثُبُوتٌ وَاعْتِبَارٌ فِي الْأَصْلِ لَكِنْ زَالَ ذَلِكَ لِدَاعٍ؛ أَلَّا يُرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ سَقَطَ حَقُّ غَيْرِ الْوَارِثِ عَنْ مَالِ الْمُورِثِ بَلْ يُقَالُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّهُ أَصْلًا. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَدَلِيلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ تَعْلِيلًا لِمَا ذَكَرُوهُ بِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى مَعَ دَلِيلِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ، وَلَا يَخْفَى عَنْهُ رَكَاكَتُهُ وَبُعْدُهُ عَنْ شَأْنِ الْمُصَنِّفِ، وَالْحَقُّ عِنْدِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute