قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاتِلِ عَامِدًا كَانَ أَوْ خَاطِئًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاشِرًا) لِقَوْلِهِ ﵊ «لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ» وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَحْرُمُ الْوَصِيَّةُ كَمَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
قَالَ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ: وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّ بِنَفْسِ الْمَوْتِ صَارَ قَدْرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْمَالِ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ، فَإِجَازَتُهُ تَكُونُ إخْرَاجًا عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَذَلِكَ هِبَةٌ لَا تَتِمُّ بِالْقَبْضِ انْتَهَى. وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي أَيْضًا. أَقُولُ: قَدْ قَصَّرُوا فِي تَقْرِيرِ وَجْهِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ حَيْثُ قَيَّدُوا الْمَالَ الَّذِي صَارَ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ بِنَفْسِ الْمَوْتِ بِقَدْرِ الثُّلُثَيْنِ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا كَانَ مَا أَجَازَهُ الْوَارِثُ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الثُّلُثِ أَوْ كَانَ قَدْرَ الثُّلُثِ كَمَا فِي صُورَةِ إجَازَتِهِ الْوَصِيَّةَ لِوَارِثٍ أَوْ قَاتِلٍ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ بِالثُّلُثِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي كُلِّيَّةِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مَعَ عَدَمِ جَرَيَانِ مَا ذَكَرُوا مِنْ الدَّلِيلِ لِلشَّافِعِيِّ فِيهَا كَمَا تَرَى. فَالْأَوْلَى فِي بَيَانِ وَجْهِ الشَّافِعِيِّ هُنَا مَا ذَكَرَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مِنْ أَنَّ الشَّارِعَ أَبْطَلَ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَلِلْوَارِثِ وَلِلْقَاتِلِ وَالْإِجَازَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْبَاطِلِ فَتَكُونُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ اهـ فَإِنَّهُ يَعُمُّ الْكُلَّ ثُمَّ إنَّ الصَّحِيحَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُنَا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
(قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ لِلْقَاتِلِ عَامِدًا كَانَ أَوْ خَاطِئًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاشِرًا لِقَوْلِهِ ﵊ «لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ») أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِمَّا يُعَارِضُهُ إطْلَاقُ قَوْله تَعَالَى ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ وَعُمُومُ قَوْلِهِ ﷺ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ تَضَعُونَهَا حَيْثُ شِئْتُمْ» أَوْ قَالَ «حَيْثُ أَحْبَبْتُمْ» كَمَا مَرَّ. ثُمَّ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ قَبِيلِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَيِّدًا لِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ قَطُّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَإِنْ صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ عِنْدَ ثُبُوتِ تَأَخُّرِ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ وُرُودِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَهُوَ لَيْسَ بِثَابِتٍ قَطُّ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَارَنَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَعَارَضَا وَيَتَسَاقَطَا فِي حَقِّ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَاعِدَةِ الْأُصُولِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَحِلِّهِ، فَمِنْ أَيْنَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: قَالَ مَالِكٌ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ، وَاحْتَجَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ» وَهَذَا نَصٌّ، وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ «لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ» ذِكْرُ شَيْءٍ نَكِرَةً فِي مَحِلِّ النَّفْيِ فَيَعُمُّ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ جَمِيعًا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَاتِلَ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومَاتِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيْنَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَاتِلَ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومَاتِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ، وَمِنْ شَرْطِ التَّخْصِيصِ أَنْ يَكُونَ الْمُخَصِّصَ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعَامِّ فِي الْوُرُودِ وَهُوَ لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ، وَلَوْ ثَبَتَ تَأَخُّرُ هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَمِنْ الدَّلَائِلِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا عَرَفْته فَكَيْفَ يَكُونُ الْقَاتِلُ مَخْصُوصًا مِنْهُ.
(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيُحَرِّمُ الْوَصِيَّةَ كَمَا يُحَرِّمُ الْمِيرَاثَ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَرُدَّ بِأَنَّ حِرْمَانَ الْإِرْثِ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ كَمَا فِي الرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ حِرْمَانَ الْقَاتِلِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِسَبَبِ مُغَايَظَةِ الْوَرَثَةِ مُقَاسَمَةَ قَاتِلِ أَبِيهِمْ فِي تَرِكَتِهِ وَالْمُوصَى لَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute