تَجُوزُ لِلْقَاتِلِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ ثُمَّ إنَّهُ قَتَلَ الْمُوصِيَ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تَبْطُلُ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلَيْنِ مَا بَيَّنَّاهُ (وَلَوْ أَجَازَتْهَا الْوَرَثَةُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ،
يُشَارِكُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَجَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ غَيْرُ مُلْتَزَمٌ انْتَهَى. أَقُولُ: لَا الرَّدُّ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ لَا يَدُلُّ عَلَى قِيَاسِ الْحِرْمَانِ مِنْ الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا عَلَى الْحِرْمَانِ مِنْ الْمِيرَاثِ حَتَّى يُرَدَّ بِأَنَّ حِرْمَانَ الْإِرْثِ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ كَمَا فِي الصُّورَتَيْنِ الْمَزْبُورَتَيْنِ، بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قِيَاسِ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ مِنْ الْوَصِيَّةِ عَلَى حِرْمَانِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ لِعِلَّةِ الِاسْتِعْجَالِ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِي صُورَتَيْ الرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ فَلَا يَجْرِي هَذَا الْقِيَاسُ فِيهِمَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ كَوْنَ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِسَبَبِ مُغَايَظَةِ الْوَرَثَةِ مُقَاسَمَةَ قَاتِلِ مُوَرِّثِهِمْ فِي تَرِكَتِهِ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَرِثَ الْقَاتِلُ عِنْدَ إجَازَةِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ إيَّاهُ وَتَرْكِهِمْ الْمُغَايَظَةَ، كَمَا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ لَا يُحْرَمَ الْقَاتِلُ عَنْ الْمِيرَاثِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَارِثٌ غَيْرُ الْقَاتِلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا.
وَالْحَقُّ أَنَّ سَبَبَ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ عَنْ الْمِيرَاثِ صُدُورُ جِنَايَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْهُ وَهِيَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي الْعُقُوبَةَ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ جَعَلَهَا الشَّرْعُ حِرْمَانَهُ عَنْ الْمِيرَاثِ، وَالْقَاتِلُ الْمُوصَى لَهُ يُشَارِكُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَجَازَ قِيَاسُ حِرْمَانِهِ عَنْ الْوَصِيَّةِ عَلَى حِرْمَانِهِ عَنْ الْمِيرَاثِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَعْنِي اسْتَعْجَلَهُ بِارْتِكَابِ جِنَايَةٍ عَظِيمَةٍ فَيُحْرَمُ الْوَصِيَّةَ كَمَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ فَيَسْتَدْعِي الزَّجْرَ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ. وَحِرْمَانُ الْوَصِيَّةِ يَصْلُحُ زَاجِرًا كَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ فَيَثْبُتُ انْتَهَى. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَعَلَّ التَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ كَوْنِهِ قِيَاسًا عَلَى طَرِيقَتِنَا عَسِرٌ جِدًّا وَسُلُوكُ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَسْهَلُ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ فِي الْمَنْطُوقِ مُتَحَقِّقًا فِي الْمُلْحَقِ بِالدَّلَالَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ أَوْ التَّسَاوِي، وَتَحَقُّقُ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْمَذْكُورِ مَمْنُوعٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَضَى لِحِرْمَانِ الْقَاتِلِ عَنْ الْمِيرَاثِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَكَسَّرُ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ أَصْلًا وَلِهَذَا لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ سَوَاءٌ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ لَمْ تُجِزْهُ بِخِلَافِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضَى لِحِرْمَانِهِ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ يَتَغَيَّرُ وَيَتَكَسَّرُ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلِهَذَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ عِنْدَهُمَا إذَا أَجَازَتْهَا الْوَرَثَةُ كَمَا سَتَطَّلِعُ عَلَيْهِ عَنْ قَرِيبٍ فَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ أَقْوَى مِنْهُ فِي حَقِّ الْوَصِيَّةِ عِنْدَهُمَا فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فِي شَأْنِ الْوَصِيَّةِ عَلَى أَصْلِهِمَا ثُمَّ أَقُولُ: هَاهُنَا احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ " كَمَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ " الْقِيَاسَ الْفِقْهِيَّ وَلَا الْإِلْحَاقَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ بَلْ كَانَ مُرَادُهُ بِهِ مُجَرَّدَ التَّنْظِيرِ وَالتَّشْبِيهِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute